الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وما سوى الله عز وجل هو الذي يفارقه عند الموت ، فلا يبقى معه في القبر أهل ولا مال ولا ولد ولا ولاية ولا يبقى إلا ذكر الله عز وجل .

فإن كان قد أنس به تمتع به ، وتلذذ بانقطاع العوائق الصارفة عنه ؛ إذ ضرورات الحاجات في الحياة الدنيا تصد عن ذكر الله عز وجل ، ولا يبقى بعد الموت عائق ، فكأنه خلى بينه وبين محبوبه فعظمت غبطته ، وتخلص من السجن الذي كان ممنوعا فيه عما به أنسه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : إن روح القدس نفث في روعي : أحبب من أحببت فإنك مفارقه أراد به كل ما يتعلق بالدنيا فإن ذلك يفنى في حقه بالموت ف كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وإنما تفنى الدنيا بالموت في حقه إلى أن تفنى في نفسها عند بلوغ الكتاب أجله .

وهذا الأنس يتلذذ به العبد بعد موته إلى أن ينزل في جوار الله عز وجل ، ويترقى من الذكر إلى اللقاء وذلك بعد أن يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور ولا ينكر بقاء ذكر الله عز وجل معه الموت فيقول : إنه أعدم ، فكيف يبقى معه ذكر الله عز وجل فإنه لم يعدم عدما يمنع الذكر ، بل عدما من الدنيا ، وعالم الملك والشهادة لا من عالم الملكوت .

التالي السابق


وأما أرباب الأحوال من الصوفية فلهم الفناء عن أنفسهم، فالمحقق أثبت الرب والبعد، وهو المتحقق، فإذا انتفى البعد في حق العارف فذلك بالوقت هو صاحب حال لا صاحب تحقيق، فتأمل .

( وما سوى الله تعالى هو الذي يفارقه عند الموت، فلا يبقى معه في القبر أهل ولا مال ولا ولد ولا ولاية) على شيء ( ولا يبقى معه إلا ذكر الله سبحانه) وما والاه، وما ورد في الخبر: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" الحديث، فإن المراد عمله الدنيوي، وهو من عالم الملك، وأما ذكر الله فهو من عالم الملكوت، فهو كالمستنثى في الأعمال ( فإن كان قد أنس به تمتع به، وتلذذ بانقطاع العوائق الصارفة عنه؛ إذ ضرورات الحاجات في الحياة الدنيا تصد عن ذكر الله عز وجل، ولا يبقى بعد الموت عائق، فكأنه يخلى بينه وبين محبوبه) الذي ألفه ( فعظمت غبطته، وتخلص من السجن الذي كان ممنوعا فيه عما به أنسه) .

قال الشيخ الأكبر -قدس سره-: من عرف شيئا تعلقت همته بطلبه، كان له إما عاجلا وإما آجلا، فإن ظفر به كان ذلك اختصاصا واعتناء، وإن لم يظفر به في حياته معجلا كان مدخرا له بعد المفارقة، قد يناله بعد المفارقة ثم ضرورة لازمة، ومن لم يتحقق منها في هذا الموطن لم يظفر ثم، وإنما سمي يوم القيامة يوم التغابن لهذا؛ إذ ينقطع الترقي، وإنما يكون الترقي ثم في نفس المقام الذي حصله المكلف ههنا .

وقال أيضا -قدس سره-: ينبغي للعبد أن يستعمل همته في الحضور في مناماته، بحيث يكون حاكما على خياله، يصرفه بعقله نوما كما كان يحكم عليه يقظة، فإذا تحقق للعبد هذا الحضور وصار خلقا له وجد ثمرة ذلك في البرزخ، وانتفع به جدا، فليهتم العبد بتحصيل هذا القدر فإنه عظيم الفائدة .

( ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: إن روح القدس نفث في روعي: أحبب ما أحببت فإنك مفارقه) تقدم ذلك في الباب السابع من كتاب العلم بلفظ: "أحبب من أحببت" وتقدم أنه رواه الطبراني في الأوسط والأصغر من حديث علي بسند ضعيف ( أراد به كل ما يتعلق بالدنيا) من الأكوان والألوان [ ص: 23 ] ( فإن ذلك يفنى في حقه بالموت) ولا يبقى ( فـ كل من عليها فان ) أي: هالك ومضمحل بالكلية ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) .

فمن تعلقت همته بكون من الأكوان كائنا ما كان فهي مع غير الله تعالى، فلا بد من دفع ذلك عنها وتعليقها به تعالى وحده، الذي من صفته البقاء المطلق، وأنه ذو الجلال والإكرام ( وإنما تفنى الدنيا بالموت في حقه إلى أن تفنى) هي ( في نفسها عند بلوغ الكتاب أجله) المحتوم ( وهذا الأنس) بالمذكور ( يتلذذ به العبد بعد موته إلى أن ينزل في جوار الله عز وجل، ويترقى من الذكر إلى اللقاء) وإنما عبر عنه بالترقي؛ لأن الذكر حجاب عن المذكور، بمنزلة الدليل، والدليل متى أعطاك المدلول سقط عند تحققك بالمدلول، وكذلك الذكر فمتى كنت مع المذكور فلا ذكر، وهذا هو اللقاء .

( وذلك بعد أن يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور) من النيات والهمم، فالعبد مع نيته وهمته تجذبه وترفعه إلى محلها منه ( ولا ينكر بقاء ذكر الله -عز وجل- معه بعد الموت فيقول: إنه أعدم، فكيف يبقى معه ذكر الله -عز وجل- فإنه لم يعدم عدما يمنع الذكر، بل عدما من عالم الدنيا، وعالم الملك و) عالم ( الشهادة لا من عالم الملكوت) الذي هو الغيب المختصر .




الخدمات العلمية