الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
السابع لا : ينبغي أن يحضر طعام ظالم فإن أكره فليقلل الأكل ولا يقصد الطعام الأطيب ، رد بعض المزكين شهادة من حضر طعام سلطان فقال: كنت مكرها فقال رأيتك تقصد الأطيب وتكبر اللقمة وما كنت مكرها عليه وأجبر السلطان هذا المزكي على الأكل فقال إما أن آكل وأخلي التزكية أو أزكي ولا آكل فلم يجدوا بدا من تزكيته فتركوه .

وحكي أن ذا النون المصري حبس ولم يأكل أياما في السجن فكانت له أخت في الله فبعثت إليه طعاما من مغزلها على يد السجان فامتنع فلم يأكل فعاتبته المرأة بعد ذلك فقال كان حلالا ولكن جاءني على طبق ظالم وأشار به إلى يد السجان وهذا غاية الورع .

التالي السابق


(السابع: لا ينبغي أن يحضر طعام ظالم) وفاجر فإنه إن أكل طعامهما صار من أعوانهما مشاركا لهما في الطعمة، (فإن أكره) أي: أكرهه سلطان على طعام أو قدم إليه شبهة أجبره على أكلها (فليقلل الأكل) أي: ليقلل بعلالة منه، ولينقر تنقيرا، ولا يكبر اللقم، ولا يستكثر في الطعام، وليأكل ما يسد رمقه وما يخاف التلف لنفسه إن هو فارقه، (ولا يقصد الطعام الأطيب، رد بعض المزكين [ ص: 271 ] شهادة من حضر طعام سلطان) ولفظ " القوت ": حدثني بعض الشهود أن مزكيا من أهل العلم بخراسان رد شهادة شاهد أكل من طعام سلطان أجبره، فقال: كنت مكرها. ولفظ " القوت ": إنه كان أجبرني على الأكل (قال) قد علمت ذلك ولم أرد شهادتك لأنك أكلت ولكني (رأيتك تقصد الأطيب وتكبر اللقمة وما كنت مكرها عليه) ولفظ " القوت ": فهل كان أجبرك على هذا ؟ فلأجل هذا جرحتك عند الحاكم، قال لنا الشيخ: (وأجبر السلطان هذا المزكي على الأكل) من ماله (فقال) اختاروا إحدى الخصلتين (إما أن آكل) كما أمرتم (وأخلي التزكية) أي: لا أزكي أحدا بعد ولا أجرح ولا أعدل شاهدا (أو أزكي ولا آكل) من طعامكم، فنظر السلطان وذووه (فلم يجدوا بدا من تزكيته) لحسن نظره وقيامه بشأن الحكام، وهم محتاجون إليه لأنه كان قليل النظير (فتركوه) وحده، فلم يأكل من طعامهم شيئا، وأجبروا من كان معه .

قال صاحب "القوت ": وكانوا قد حملوا من نيسابور إلى بخارى في قصة طويلة حذفت سببها، والمعنى هذا باختلاف الألفاظ التي سمعتها، ولكن توخيت ما سمعت على المعنى قال: وقد كان بشر بن الحارث يقول في الأكل من الشبهات: يد أقصر من يد، ولقمة أصغر من لقمة، وكان إذا نفر وتكلم في الحلال قيل له: فأنت يا أبا نصر من أين تأكل ؟ فكان يقول: من حيث تأكلون، ولكن ليس من يأكل وهو يبكي كمن يأكل وهو يضحك. وقد كان سري السقطي رحمه الله تعالى يقول: لا يصبر على ترك الشبهات إلا من ترك الشهوات، ففي تدبره أن من أحب الشهوات لم يترك الشبهات، كما كان الزهري إذا عوتب في صحبة بني مروان يقول: أصدقكم الحق اتسعنا في الشهوات فضاق علينا ما في أيدينا فانبسطنا إليهم .

(و) من هذا الباب ما (حكي أن ذا النون المصري) المكنى أبا الفيض من أهل الخبيرة، ترجمه أبو نعيم في " الحلية " والقشيري في الرسالة، قال القشيري: اسمه ثوبان بن إبراهيم وقيل: الفيض بن إبراهيم وأبوه كان نوبيا فائق هذا الشأن وواحد وقته علما وحالا وورعا وأدبا، وكان رجلا نحيفا تعلوه حمرة، ليس بأبيض اللحية، توفي سنة 245 رحمه الله تعالى حبس في كلام أنكره عليه العامة من العلم الغامض، وكان الحابس له على ذلك متولي مصر إذ ذاك من طرف الخلفاء، وهذه القصة غير التي حصلت له ببغداد، فإنهم سعوا إلى المتوكل فاستحضره من مصر، فلما دخل عليه فبكى المتوكل ورده مكرما، وكان المتوكل إذا ذكر بين يديه أهل الورع يبكي، ويقول: إذا ذكر أهل الورع فحيهلا بذي النون كما في الرسالة. (فلم يأكل أياما في السجن) مدة مقامه فيه، وكانت المائدة تختلف إليه من قبل السلطان، فلم يكن يطعم منها شيئا (وكانت له أخت) قد آخته (في الله فبعثت إليه من غزلها) أي: من أجرته (طعاما) ودفعته إليه (على يد السجان) فحمله إليه وعرفه أنه من قبل تلك العجوز الصالحة (فامتنع ولم يأكل) منه، أيضا فعلت ذلك معه مدة مقامه في السجن وهو يرده ولا يأكل، (فعاتبته المرأة بعد ذلك) لما لقيته على رد الطعام وقالت: قد علمت أنه كان من مغزلي (فقال) : نعم (كان حلالا ولكن جاءني على طبق ظالم) فرددته لأجل الظرف، (وأشار به إلى يد السجان) شبهه بالطبق (وهذا غاية الورع) . وفي "القوت ": هذا أغمض في الورع وما سمعت أدق منه .




الخدمات العلمية