الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المرتبة الخامسة : أن لا يراعي التقدير فإن ذلك إنما يتيسر لنبي يوحى إليه أو لمن يعرف منازل القمر ويوكل به من يراقبه ويواظبه ويوقظه ثم ربما يضطرب في ليالي الغيم ولكنه يقوم من أول الليل إلى أن يغلبه النوم ، فإذا انتبه قام ، فإذا غلبه النوم عاد إلى النوم فيكون له في الليل نومتان وقومتان ، وهو من مكابدة الليل وأشد ، الأعمال وأفضلها وقد كان هذا من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو طريقة ابن عمر وأولي العزم من الصحابة وجماعة من التابعين رضي الله عنهم وكان بعض السلف يقول : هي أول نومة فإذا ، انتبهت ثم عدت إلى النوم فلا أنام الله لي عينا فأما قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث المقدار فلم يكن على ترتيب واحد ، بل ربما كان يقوم نصف الليل أو ثلثه أو سدسه يختلف ذلك في الليالي ودل عليه قوله تعالى في الموضعين من سورة المزمل : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه فأدنى من ثلثي الليل كأنه بصفه ونصف سدسه ، فإن كسر قوله : ونصفه وثلثه كان نصف الثلثين فيقرب من الثلث والربع وإن ، نصب كان نصف الليل وقالت عائشة رضي الله عنها : " كان صلى الله عليه وسلم يقوم إذا سمع الصارخ يعني " الديك وهذا يكون السدس فما دونه وروى غير واحد أنه قال : " راعيت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ليلا فنام بعد العشاء زمانا ، ثم استيقظ فنظر في الأفق فقال : ربنا ما خلقت هذا باطلا حتى بلغ : إنك لا تخلف الميعاد ثم استل من فراشه سواكا فاستاك به وتوضأ ، وصلى حتى قلت : صلى مثل الذي نام ، ثم اضطجع حتى قلت : نام مثل ما صلى ، ثم استيقظ فقال ما قال أول مرة وفعل ما فعل أول مرة .

التالي السابق


(المرتبة الخامسة: أن لا يراعي التقدير) ، فلا يكون قيامه ونومه موزونا عدلا، (فإن ذلك إنما يتيسر لنبي) بقلب دائم اليقظة و (يوحى [ ص: 202 ] إليه) من الله سبحانه، ولا يسلك هذا الطريق إلا بأسباب هي زادك، لأن كل طريق يقطع بزاد مثله، فمن أراد أخذ من زاده. هكذا ذكره صاحب "القوت " وأتبعه بذكر الأسباب الثمانية التي ذكرها المصنف آنفا، ثم قال: فهذه رياضة المريد إلى أن يألف القيام، فيتجافى جنبه حينئذ لما في قلبه من الخوف والرجاء الذي قد استكن فيه، وقد اقتصر صاحب "القوت " على أن مراعاة التقدير يتيسر لنبي بوحي، وزاد المصنف فقال: (أو لمن يعرف منازل القمر) الثمانية والعشرين، وكيفية حلول القمر فيها، ومتى يحل، وكم يمكث، ومتى يرتحل معرفة جيدة بكثرة الملازمة والتجربة (ويوكل به) مع ذلك (من يراقبه ويوقظه ثم) هذا فيه ما فيه من التعب المفضي إلى اختلال أمور كثيرة، فإنه (ربما يضرب ذلك في ليالي الغيم) فيحول بينه وبين رؤيته للمنازل، (ولكنه يقوم من أول الليل إلى أن يغلبه النوم فينام، فإذا انتبه قام، فإذا غلبه النوم عاد إلى النوم) ثم يقوم آخر الليل (فيكون له في الليل نومتان وقومتان، وهو من مكابدة الليل، وهو من أشد الأعمال وأفضلها) وهذه طريقة أهل الحضور واليقظة، وأهل الأفكار والتذكرة .

(وقد كان هذا من أخلاق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) ففي الخبر: " ما كنت تريد أن ترى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائما إلا رأيته، ولا كنت تريد أن تراه نائما إلا رأيته ".

قال العراقي : روى أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه من حديث أم سلمة: " كان يصلي وينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح". وللبخاري من حديث ابن عباس: " صلى العشاء ثم جاء فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم قام ". وفيه: " فصلى خمس ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام حتى سمعت غطيطه". الحديث. اهـ .

قلت: وللنسائي: " كان يصلي العتمة، ثم يسبح، ثم يصلي بعدها ما شاء الله من الليل، ثم ينصرف فيرقد مثل ما صلى، ثم إنه يستيقظ من نومه ذلك، فيصلي مثل ما نام، وصلاته تلك الأخيرة تكون إلى الصبح.

(وهي طريقة ابن عمر ) ولفظ " القوت ": وكان هذا مذهب ابن عمر (رضي الله عنهما وأولي العزم من الصحابة) في قيام الليل (و) فعله (جماعة من التابعين) رحمهم الله تعالى. (وكان بعض السلف يقول: هي أول نومة، فإن انتبهت ثم عدت إلى النوم فلا أنام الله عيني) نقله صاحب "القوت " بلفظ: " ثم عدت إلى نومة أخرى، ونقل صاحب العوارف مثله، وزاد قال: وحكى لي بعض الفقراء عن شيخ له أنه كان يأمر الأصحاب بنومة واحدة بالليل وأكلة واحدة بالنهار لليوم والليلة، (فأما قيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حيث المقدار فلم يكن على ترتيب واحد، بل ربما كان يقوم نصف الليل أو ثلثه أو سدسه) .وفي بعض النسخ: أو ثلثيه بعد قوله أو ثلثه (مختلف ذلك في الليالي) .

قال العراقي : رواه الشيخان من حديث ابن عباس: فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ" الحديث. وفي رواية للبخاري: " فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء" الحديث. ولأبي داود: " حتى إذا ذهب ثلث الليل أو نصفه استيقظ" الحديث. ولمسلم من حديث عائشة : " فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل" .

(يدل ذلك على قول الله عز وجل في الموضعين من سورة المزمل: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه ) ولفظ " القوت ": وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوم ليلة نصف الليل، وليلة ثلثه، وليلة ثلثيه، وذلك مذكور في أول الآيتين من قيام الليل في سورة المزمل. وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقوم نصف الليل ونصف سدسه معه، ويقوم ليلة ربعه، ويقوم ليلة سدس الليل حسب، وذلك مذكور في أخرى الآيتين من قيام الليل. اهـ .

(فأدنى من ثلثي الليل كأنه نصفه ونصف سدسه، فإن كسر قوله: ونصفه وثلثه كان نصف الثلثين وثلثه فيقرب من الثلث والربع، وأنه نصب كان نصف الليل وثلثه) .

ولفظ " القوت ": وهذا على قراءة من كسر ونصفه وثلثه، فأما من نصب فقال: ونصفه وثلثه فإنه يعني يقوم النصف مع نصف السدس، والنصف وحده، وهو الذي ذكرناه من الآية الأولى .

وقد جاء في التفسير نحو هذا، وهو -صلى الله عليه وسلم- مفترض عليه صلاة الليل، فالآية الأولى أمره بقيام الليل فيها، والأخرى أخبر عنه بقيامه كيف هو، فالأجود أن يكون ما أخبر عنه مواطئا لما أمر به، فالذي أمره به أن قال: قم الليل ثم استثنى القليل منه وقال: إلا قليلا ثم فسر أمره وقال: نصفه أو انقص من النصف قليلا [ ص: 203 ] يعني -والله سبحانه وتعالى أعلم- انقص نصف السدس أو ثلث النصف، هذان أقل أسماء النقصان عند العرب، ثم قال: أو زد عليه نصف سدس الليل لأنه أخبر عنه في الآية الأخرى بأقل من الثلثين، فقال عز وجل: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل يكون هذا نصفا ونصف سدس وهو أقل التسمية عندهم، ثم قال: ونصفه أي: ويعلم أنك تقوم أيضا نصفه وثلثه. أي: وتقوم ثلثه، فهذه الأخبار أشبه لوطء الأمر من قراءة من كسر فقال: ونصفه وثلثه، يريد ويقوم أدنى من نصفه وهو الربع أو الثلث، وأدنى من ثلثه وهو السدس أو نصف السدس .

(وقد قالت عائشة - رضي الله عنها -: " كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوم) من الليل (إذا سمع الصارخ") قال العراقي : متفق عليه .

قلت: ورواه كذلك أحمد وأبو داود والنسائي . (أي الديك) وإنما سمي به لكونه كثير الصياح ليلا. قال الطيبي: إذا في الحديث لمجرد الظرف، (وهذا يكون السدس فما دونه) . ولفظ " القوت ": هذا يكون من السحر، فكان هذا يكون سدس الليل أو نصف سدسه. اهـ .

وقال ابن ناصر: أول ما يصيح الديك نصف الليل غالبا. وقال ابن بطال: ثلثه. ثم قال صاحب "القوت ": وهذا أيضا فيه رخصة وسعة لقوام الليل، قلنا ذلك تقريبا لا تحديدا والله سبحانه وتعالى العالم الحكيم، والنصب اختيارنا في القراءة على معنى كثرة القيام ولمواطأة الخبر عنه للأمر .

(وروي عن بعض الصحابة) كذا في النسخ. وفي نسخة العراقي: وروى غير واحد من الصحابة. ووقع في بعض النسخ: وروى واقد وأخاله تصحيفا (أنه قال: " راعيت صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلا فنام بعد العشاء زمانا، ثم استيقظ فنظر في الأفق فقال: ربنا ما خلقت هذا باطلا حتى بلغ: إنك لا تخلف الميعاد ثم استل من فراشه سواكا فاستاك به وتوضأ، وصلى حتى قلت: قد صلى مثل الذي نام، ثم اضطجع حتى قلت: قد نام مثل ما صلى، ثم استيقظ فقال ما قال أول مرة وفعل ما فعل أول مرة) ، قال العراقي : رواه النسائي من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف: " أن رجلا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قلت وأنا في سفر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: والله لأرقبن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. " فذكر نحوه .

وروى أبو الوليد بن مغيث في كتاب الصلاة من رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أن رجلا قال: لأرمقن صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الليلة، فذكر الحديث، وفيه: أنه أخذ سواكه من مؤخرة الرحل ، وهذا يدل على أنه أيضا كان في سفر .




الخدمات العلمية