الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها فإن زاد زادت حتى تغلف قلبه فذلك الران الذي ذكره الله عز وجل في كتابه كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله سبحانه ليرفع الدرجة للعبد في الجنة فيقول يا رب أنى لي هذه ؟ فيقول عز وجل : باستغفار ولدك لك " وروت عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساؤوا استغفروا " وقال صلى الله عليه وسلم : " إذا أذنب العبد ذنبا فقال : اللهم اغفر لي فيقول ، الله عز وجل : أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يأخذ بالذنب ويغفر الذنب ، عبدي اعمل ما شئت فقد غفرت لك .

وقال " صلى الله عليه وسلم : " ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة وقال صلى الله عليه وسلم : " إن رجلا لم يعمل خيرا قط نظر إلى السماء فقال : إن لي ربا يا رب فاغفر لي ، فقال الله عز وجل : قد غفرت لك " وقال صلى الله عليه وسلم : " من أذنب ذنبا فعلم أن الله قد اطلع عليه غفر له وإن لم يستغفر " وقال صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : " يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيته فاستغفروني أغفر لكم ، ومن علم أني ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له ولا أبالي وقال صلى الله عليه وسلم : " من قال : سبحانك ، ظلمت نفسي ، وعملت سوءا ، فاغفر لي فإنه ؛ لا يغفر الذنوب إلا أنت ، غفرت له ذنوبه ولو ، كانت كمدب النمل .

وروي إن أفضل الاستغفار؛ اللهم أنت ربي وأنا عبدك خلقتني، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء على نفسي بذنبي، فقد ظلمت نفسي واعترفت بذنبي؛ فاغفر لي ذنوبي ما قدمت منها وما أخرت؛ فإنه لا يغفر الذنوب جميعا إلا أنت .

التالي السابق


وفي الحديث أن من شرط الدعاء تقديم عمل صالح أمام الدعاء.

( وروى أبو هريرة) رضي الله عنه ( عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر) الله -عز وجل- منه ( صقل قلبه منها) أي: من تلك النكتة ( فإذا زاد) الذنب ( زادت) النكتة فلم تزل ( حتى تغلف قلبه) أي: تلبسه كله ( فلذلك الران الذي ذكره الله -عز وجل- في كتابه) وهو قوله -عز وجل-: ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) قال العراقي: رواه الترمذي وصححه، النسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم.

قلت: ورواه كذلك أحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب بلفظ: "إن المؤمن إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء" إلخ، وفيه: "فإن عاد زادت" والباقي سواء .

وأخرج ابن المنذر، عن إبراهيم التميمي نحو ذلك .

وأخرج هو وابن أبي حاتم، وابن جرير، عن ابن عباس في قوله: ران أي: طبع .

وأخرج سعيد بن منصور [ ص: 59 ] عن مجاهد قال: "الرين الطمع".

وأخرج ابن جرير عنه قال: "الرين أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد ذلك كله" .

( وروى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله سبحانه ليرفع الدرجة للعبد في الجنة) أي: المنزلة ( فيقول) العبد: ( يا رب أني لي هذه؟) أي: كيف لي هذه الدرجة؟ ولم نلتها؟ ( فيقول الله -عز وجل-: باستغفار ولدك لك") قال العراقي: رواه أحمد بإسناد حسن .

قلت: ويؤيده ما روى أبو نعيم في الحلية من طريق قتادة، عن أنس، رفعه: "سبع يجري أجرها للعبد بعد موته وهو في قبره: من علم علما، أو طوى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته".

( وروت عائشة -رضي الله عنها- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا) أي: إذا أتوا بعمل حسن قرنوه بالإخلاص، فيترتب عليه الجزاء، فيستحقون الجنة، فيستبشرون بها ( وإذا أساءوا استغفروا") أي: طلبوا من الله مغفرة ما فرط منهم، وهذا تعليم للأمة، أرشدهم إلى أن يأتي الواحد منهم بهذا الدعاء الذي هو عبادة؛ من أجل أن لا يبتليه بالاستدراج، ويرى عمله حسنا فيهلك .

وقوله: "من الذين" إلخ، أبلغ من أن يقول: اجعلني أستبشر إذا أحسنت، وأستغفر إذا أسأت، كما تقول: فلان من العلماء، فيقال: أبلغ من قولك: فلان عالم؛ لأنك تشهد له بكونه معدودا في زمرتهم، ومعروفة مساهمته لهم، ذكره الزمخشري .

قال العراقي: رواه ابن ماجه، وفيه: علي بن زيد بن جدعان، مختلف فيه. اهـ .

قلت: وكذلك رواه البيهقي في السنن بهذا الإسناد .

( وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أذنب العبد ذنبا فقال: اللهم اغفر لي، يقول الله -عز وجل-: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، عبدي اعمل ما شئت فقد غفرت لك") قال العراقي: متفق عليه من حديث أبي هريرة.

قلت: وكذلك أخرجه النسائي، ولفظهم جميعا عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أي عبد أصاب ذنبا -وربما قال أذنب ذنبا- فقال: رب أذنبت ذنبا -وربما قال: أصبت ذنبا- فاغفره لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي. ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبا، فقال: رب أذنبت -أو أصبت- آخر، فاغفره، فقال: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثلاثا، فليعمل ما شاء".

( قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما أصر) أي: ما أقام على الذنب ( من استغفر) أي: من تاب توبة صحيحة؛ لأن التوبة بشروط ترفع الذنوب كلها ( وإن عاد في اليوم سبعين مرة) فإن رحمة الله لا نهاية لها ولا غاية .

قال العراقي: رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي بكر، وقال: غريب، وليس إسناده بالقوي .

قلت: قال الزيلعي: إنما لم يكن قويا لجهالة مولى أبي بكر الراوي عنه، لكن جهالته لا تضر؛ إذ تكفيه نسبته إلى الصديق. اهـ .

قال المناوي: وفيه أيضا عثمان بن واقد، ضعفه أبو داود نفسه .

قلت: عثمان بن واقد لم أر له ذكرا في كتاب الضعفاء للذهبي، ولا في ذيله، ولعله عثمان بن فائد، فلينظر ذلك .

( وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن رجلا لم يعمل خيرا قط نظر إلى السماء) إذ هي قبلة الدعاء ( فقال: إن لي ربا) فأقر بربوبيته، وشهد بوحدانيته، ثم قال: ( يا رب اغفر لي، فقال الله -عز وجل-: قد غفرت لك") قال العراقي: لم أقف له على أصل. اهـ .

قلت: وجدت بخط ابن الحريري قال: وجدت بخط الشيخ المحدث زين الدين الدمشقي الواعظ ما نصه: أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن، بسند ضعيف من حديث أبي هريرة.

( وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من أذنب ذنبا فعلم أن الله قد اطلع عليه غفر له وإن لم يستغفر" ) ليس المراد منه كما قال المناوي: الحث على فعل الذنب أو الترخيص فيه، كما توهمه بعض أهل الغرة، فإن الرسل إنما بعثوا للردع عن غشيان الذنوب، بل ورد مورد البيان لعفو الله عن المذنبين، وحسن التجاوز عنهم، ليعظموا الرغبة فيما عنده من الخير، والمراد: أنه سبحانه كما يحب أن يحسن يحب أن يتجاوز عن المسيء .

والقصد بإيراده بهذا اللفظ الرد على منكر صدور الذنب من المؤمنين، وأنه قادح في إيمانهم .

قال العراقي: رواه الطبراني في الأوسط من حديث ابن مسعود [ ص: 60 ] بسند ضعيف. اهـ .

قلت: وكذلك رواه في الصغير أيضا، وفي الإسناد: إبراهيم بن هراسة، وهو متروك، قاله الهيثمي، فهذا معنى قول العراقي: بسند ضعيف .

وروى الحاكم، وأبو نعيم في الحلية، والطبراني من حديث قبيصة، عن جابر بن مرزوق، عن عبد الله العمري، عن أبي طوالة، عن أنس مرفوعا: "من أذنب ذنبا فعلم أن له ربا إن شاء الله أن يغفر له غفر له، وإن شاء أن يعذبه عذبه، كان حقا على الله أن يغفر له" وفي جابر بن مرزوق نكرة .

( وقال -صلى الله عليه وسلم-: يقول الله -عز وجل-: "يا عبادي) كلكم ضال إلا من هديته فسلوني الهدى أهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيته فسلوني أرزقكم، و ( كلكم مذنب إلا من عافيته فاستغفروني أغفر لكم، ومن علم) منكم ( أني ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له ولا أبالي) يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي جناح بعوضه" الحديث بطوله .

قال العراقي: رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي ذر، وقال الترمذي: حسن. وأصله عند مسلم بلفظ آخر. اهـ .

قلت: وكذلك رواه أبو هناد، وأبو داود، وروى أحمد بعضه، وقد وقع لنا مسلسلا بالشاميين بلفظ مسلم، وأوله: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي" الحديث بطوله .

وروى الطبراني والحاكم عن ابن عباس، رفعه، قال الله -عز وجل-: "من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئا".

( وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من قال: سبحانك، ظلمت نفسي، وعملت سوءا، فاغفر لي؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، غفرت له ذنوبه، وإن كانت كدب النمل") قال العراقي: رواه البيهقي في الدعوات من حديث علي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أعملك كلمات تقولهن لو كان عليك كعدد النمل أو كعدد الذر ذنوبا غفر الله لك" فذكره بزيادة: "لا إله إلا أنت" في أوله، وفيه ابن لهيعة. اهـ .

قلت: وروى ابن النجار من حديث ابن عباس: "من قال: لا إله إلا أنت سبحانك، عملت سوءا، وظلمت نفسي، فتب علي إنك أنت التواب الرحيم، غفرت ذنوبه ولو كان فارا من الزحف".

ورواه الديلمي من حديثه مثله بلفظ: "فاغفر لي إنك أنت خير الغافلين غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر".

ويروى أن أفضل الاستغفار هو هذا: "اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء على نفسي بذنبي، فقد ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر ذنوبي، ما قدمت منها وما أخرت؛ إنه لا يغفر الذنوب جميعا إلا أنت".

قال العراقي: رواه البخاري من حديث شداد بن أوس دون قوله: "وقد ظلمت نفسي واعترفت بذنبي" ودون قوله: "ذنوبي ما قدمت منها وما أخرت" ودون قوله: "جميعا". اهـ .

قلت: ورواه أيضا أحمد، وأبو بكر بن أبي شيبة، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والطبراني، وقال صاحب سلاح المؤمن: وليس لشداد بن أوس في الصحيحين سوى حديثين، أحدهما هذا، والآخر في مسلم "إن الله كتب الإحسان على كل شيء".

ولفظ الجماعة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. إذا قال حين يمسي فمات دخل الجنة، أو كان من أهل الجنة، وإذا قال حين يصبح فمات من يومه، بمثله".

وفي رواية للجماعة: "من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة".



* ( تنبيه) *:

شرح هذا الحديث -سيد الاستغفار- أي: أفضل أنواع الذكر التي تطلب بها المغفرة هذا الذكر الجامع لمعاني التوبة كلها؛ ولذلك لقب بسيد الاستغفار؛ لأن السيد في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج، ويرجع إليه في المهمات .

وقوله: "أن يقول" أي: العبد، وثبت في رواية أحمد والنسائي: "إن سيد الاستغفار أن يقول العبد" وفي رواية للنسائي: "تعلموا سيد الاستغفار، أن يقول العبد" .

وقوله: "اللهم أنت ربي" قال الحافظ ابن حجر في نسخة معتمدة من

البخاري: تكرير أنت، وسقطت الثانية من معظم الروايات، وأنا عبدك، يجوز أن تكون مؤكدة، وأن تكون مقررة، أي: وأنا عابد لك، كقوله: وبشرناه بإسحاق نبيا .

قال الطيبي: [ ص: 61 ] والمراد بالعهد والوعد: ما عاهده عليه وواعده من الإيمان به، وإخلاص الطاعة له .

وقيل: العهد ما أخذ عليهم في عالم الذر يوم ألست بربكم والوعد ما جاء على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن من مات لا يشرك به شيئا دخل الجنة".

"ما استطعت" أي: مدة دوام استطاعتي، ومعناه: الاعتراف بالعجز، والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى .

"أبوء" أي: أعترف وألتزم، قال الطيبي: اعترف أولا بأنه تعالى أنعم عليه، ولم يقيده؛ ليشمل كل الإنعام، ثم اعترف بالتقصير، وأنه لم يقم بأداء شكرها، وعده ذنبا؛ مبالغة في التقصير، وهضم النفس .

وفائدة الإقرار بالذنب أن الاعتراف يمحو الاقتراف .

قال الشيخ سيدي عبد الله بن أبي حمزة -قدس سره- في شرحه على مختصره من البخاري: قد جمع في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أن يسمى سيد الاستغفار، ففيه الإقرار لله وحده بالألوهية والمعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة من شر ما جنى على نفسه، وإضافة النعم إلى موجدها، وإضافة الذنب إلى نفسه؛ إذ حظه في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر على ذلك إلا هو، وكل ذلك إشارة إلى الجمع بين الحقيقة والشريعة؛ فإن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان عون من الله تعالى، ويظهر أن اللفظ المذكور لا يكون سيد الاستغفار إلا إذا جمع صحة النية والتوجه والأدب .




الخدمات العلمية