الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
العقد الخامس :

القراض .

التالي السابق


(العقد الخامس: القراض) *

هو والمضاربة لفظان يستعملان في عرف الفقهاء في عقد، وهو: أن يدفع إنسان مالا إلى غيره ليتجر فيه، على أن يكون الربح بينهما، على حسب ما يشترط، والمشهور: أن القراض لغة أهل الحجاز، مأخوذ من القرض، وهو القطع; سمي به لأن المالك اقتطع قطعة من ماله ودفعها إلى العامل، أو من المقارضة، وهي الموازنة، من قارض الشاعر الشاعر، إذا وازن كل واحد صاحبه بشعره، فالمالك مقارض، والعامل مقارض، والمقارضة لغة أهل العراق، وسمي هذا العقد مضاربة; إما لأن كل واحد منهما يضرب في الربح بسهم، وإما لما فيه من الضرب بالمال، والتقليب .

واحتجوا لهذا العقد بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم، ولا بد للإجماع من سند، وسنده: أنهم في زمانه صلى الله عيه وسلم، وبعده، رأوا هذه المعاملة شائعة بين المعاملين، وتحققوا التقرير عليها شرعا، وأجمعوا على ذلك، فصار مجمعا عليها، وذكر الشافعي من اختلاف العراقيين: أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى، روى عن حميد بن عبد الله بن عبيد الأنصاري، عن أبيه، عن جده، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أعطى مال يتيم مضاربة، فكانت تعمل به في العراق.

وروي أن عبد الله، وعبيد الله، ابني عمر بن الخطاب، لقيا أبا موسى بالبصرة، في منصرفهما من غزوة نهاوند، فتسلفا منه مالا، وابتاعا به متاعا، وقدما المدينة فباعاه، وربحا فيه، فأراد عمر -رضي الله عنه- أخذ رأس المال، والربح كله، فقالا: لو تلف كان ضمانه علينا، فكيف يكون ربحه لنا؟! فقال عبد الرحمن: مشعر بأن القراض كان مشهورا بينهم، قال الشيخ: وأظهر ما ذكره الأصحاب في مجمل القصة، ما قاله ابن سريج، أن ما جرى كان قرضا صحيحا، وكان الربح ورأس المال لهما، لكن عمر -رضي الله عنه- استنزلهما عن بعض الربح، واستطاب أنفسهما، ولم يخالفاه، كما استطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفس الغانمين عن سبايا هوازن، لما أراد ردها عليهم بعد قسمتها، وجريان ملك الغانمين فيها، وقال العلماء: ما جرى كان قرضا فاسدا; لأن أبا موسى شرط عليهما رد المال بالمدينة، فكان قرضا جر منفعة، فيمكن أنهما اشتريا الأمتعة بعين رأس المال، ويمكن أنهما اشتريا الأمتعة في الذمة، فالملك مع الربح لهما، لكن لما أنفقا مال بيت المال في أثمان الأمتعة، رأى عمر استطابة أنفسهما عن بعض الربح .

وعن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، أن عثمان رضي الله عنه، أعطاه مالا مقارضة.

وأيضا عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وجابر، وحكيم بن حزام، رضي الله عنهم، تجويز المضاربة .

وأيضا فإن السنة النبوية وردت ظاهرة في المساقاة، وإنما جوزت المساقاة من حيث الحاجة، من حيث إن مالك النخيل قد لا يحسن تعهدها، وقد لا يتفرغ، ومن لا يحسن العمل قد لا يملك ما يعمل فيه، وهذا المعنى لما كان موجودا في القراض قاسوه عليها، وأجازوها، وهذا المجموع مع شهرة ذلك بينهم يصلح أن يكون سندا للإجماع، وسبب إجماعهم .

وتلقي الأمة بالقبول دليل واضح على الإجماع، هذا تقرير كلام أصحاب الشافعي، رضي الله عنه .

وقال أصحابنا: المضاربة شركة بمال من جانب، وعمل من جانب، والمراد بالشركة: الشركة في الربح، حتى لو شرطا فيها الربح لأحدهما لا تكون مضاربة .

وقيل: هي عبارة عن دفع المال إلى غيره ليتصرف فيه ويكون الربح بينهما على ما شرطا، فيكون الربح لرب المال بسبب ماله; لأنه نماء ملكه، وللمضارب باعتبار أنه تسبب لوجود الربح، وهي مفاعلة من الضرب في الأرض، وهو السير، قال الله تعالى: وآخرون يضربون في الأرض يعني: الذين يسافرون للتجارة، [ ص: 466 ] وسمي هذا العقد بها; لأن المضارب يسير في الأرض غالبا لطلب الربح; ولهذا قال الله تعالى: يبتغون من فضل الله وهو الربح، وأهل الحجاز يسمون هذا العقد مقارضة، وهو من القرض; لأن صاحب المال يقطع قدرا من ماله ويسلمه للعامل، وأصحابنا اختاروا لفظ المضاربة موافقة لما تلونا من نظم الآية .

وهي مشروعة; لشدة الحاجة إليها من الجانبين، فإن من الناس من هو صاحب مال، ولا يهتدي إلى التصرف، ومنهم من هو بالعكس، فشرعت لتنتظم مصالحهم، فإنه صلى الله عليه وسلم بعث والناس يتعاملونه، فقررهم عليها، وتعاملتها الصحابة، ألا ترى أن عباس بن عبد المطلب، رضي الله عنه، كان إذا بعث مالا مضاربة، شرط عليه أن لا يسلك به بحرا، وأن لا ينزل واديا، ولا يشتري ذات كبد رطب، فإن فعل ذلك ضمن، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحسنه، فصارت مشروعة بالسنة والإجماع اهـ .




الخدمات العلمية