الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 232 ] وأما أولو العزم الذين أمر الله نبيه أن يتأسى بهم ولا يتشبه بذي النون ، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أوذي يقول : «قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر » .

وأهل المصائب إنما يكونون صابرين إذا صبروا عند الصدمة الأولى ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنما الصبر عند الصدمة الأولى » . وإلا فمن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم . والعاقل يفعل في أول يوم ما يفعله الأحمق بعد ثلاثة أيام .

فالإنسان إذا أوذي على إيمانه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وتبليغ رسالات الله وإظهار دين الله ، وذم من يخالف دين الله ، كما أوذي الرسل وأتباعهم ، كان صبره من القسم الأعلى ، مثل صبر الرسل وصبر المهاجرين والأنصار . وكثير من الناس إذا أوذي على الحق تركه ، قال تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله [العنكبوت :10] ، وقال تعالى : ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير [الحج :11 - 13] . [ ص: 233 ]

ثم هؤلاء إذا أوذوا على الحق فرجعوا عنه ، ثم تابوا وجاهدوا في سبيل الله قبل الله ذلك منهم ، قال تعالى لما ذكر المرتدين طوعا وكرها : ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم [النحل :110] .

فمن حصل له إيمان وطاعة ، ففتنه شياطين الإنس والجن حتى رجع عن ذلك ، ثم إنه هاجر فهجر تلك السيئات ، ثم جاهد العدو ، وصبر على الإيمان والطاعة فلم يرجع ، وصبر على ظلم الظالم له ، ثم إنه هجر ما له من المباحات لله ليتم إيمانه ، فهذا أعلى . قال تعالى : والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون [النحل :41 - 42] .

فهجر السيئات فرض على كل أحد ، وهجر المباحات من الوطن والأهل والمال إن لم يتم الواجب إلا به كان واجبا ، وإن لم يتم المستحب إلا به كان مستحبا . ولهذا تجب الهجرة على من يمنع من الواجبات وتستحب لغيره . وفي الصحيحين أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال : «ويحك! إن الهجرة شأنها شديد ، فاعمل من وراء البحار ، فإن الله لن يترك من عملك شيئا » . [ ص: 234 ]

وقال تعالى : والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق [الأنفال :72] . وفي حديث بريدة الذي في صحيح مسلم : «وإذا حاصرت أهل حصن فادعهم إلى الإيمان ، ثم ادعهم إلى التحول إلى دار المهاجرين ، وإلا كانوا كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على أعراب المسلمين ، وليس لهم في الفيء نصيب » .

وهذه الأمور لبسطها موضع آخر ، والمقصود أن معنى الهجرة العامة هي هجر السيئات ، وهجرها بعد الدخول فيها هو التوبة ، فهذا المعنى يلحظ في هذا اللفظ . ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا » جعل طائفة من العلماء مما يدخل في تقدم الهجرة تقدم التوبة وتقدم الإسلام ، فإذا كان الرجلان قد أسلم أحدهما قبل صاحبه ، أو تاب من السيئات قبل صاحبه ، فهذا أقدم هجرة وأركانا في وطنيهما ، فإن المقدم أسبقهما إلى الطاعة باختياره ، ثم أسبقهما إلى الطاعة بفعل الله تعالى ، وهو كبر السن . والله أعلم . [ ص: 235 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية