الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد يكثر تنازع الناس في هذا الباب ، فالمثبتة للقضاء والقدر من متكلمة أهل الإثبات وغيرهم يلاحظون القدر من علم الله وكتابه ومشيئته وخلقه ، وقد يعرضون عما جاء به الأمر والنهي والوعد والوعيد ، وعن الحكمة العامة وما في تفصيل ذلك من الحكم الخاصة . وأما من لم يلاحظ إلا الأمر والنهي والوعد والوعيد فقط من القدرية ومن ضاهاهم في حاله ، فقد كفر بما وجب عليه الإيمان به من خلق الله وكتابته ومشيئته ، وتدبيره لعباده المؤمنين الذين سبقت لهم منه الحسنى بتدبير خاص ، ومن قضائه على الكفار بما هو سبحانه فيه عدل ، كما في [ ص: 249 ] الحديث المرفوع : «ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك » ، ولا يظلم ربك أحدا [الكهف :49] .

وإذا عرف أن كل واحد من الابتلاء بالسراء والضراء قد يكون في باطن الأمر مصلحة للعبد أو مفسدة له ، وأنه إن أطاع الله فذلك كان مصلحة له ، وإن عصاه كان مفسدة له تبين أن الناس أربعة أقسام : منهم من يكون صلاحه على السراء ، ومنهم من يكون صلاحه على الضراء ، ومنه من يصلح على هذا وهذا ، ومنهم من لا يصلح على أحد منها . والإنسان الواحد قد يجتمع له هذه الأحوال الأربعة في أوقات أو وقت واحد ، باعتبار أنواع يبتلى بها .

وقد جاء في الحديث المرفوع : «إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ، ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم ، ولو أصححته لأفسده ذلك ، إني أدبر عبادي ، إني بهم خبير [ ص: 250 ] بصير » .

فكما أن التنعم العاجل ليس بنعمة في الحقيقة ، بل قد يكون في الحقيقة بلاء وشرا باعتبار المعصية فيه ، والطاعة المتقدمة قد تكون حابطة وسببا للشر باعتبار ما يتعقبها من ردة وفتنة ، فكذلك التألم العاجل قد يكون في الحقيقة خيرا ونعمة ، والمعصية المتقدمة قد تكون سببا للخير باعتبار التوبة والصبر على ما يعقبه من محنة ، لكن تبدل الطاعة والمعصية .

وهذا يقتضي أن العبد محتاج في كل وقت إلى الاستعانة بالله على طاعته وتثبيت قلبه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وذلك أن الإنسان هو كما وصفه الله بقوله : ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور [هود :9 - 10] ، ثم قال : إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات [هود :11] ، فأخبر أنه عند الضراء بعد السراء ييأس من زوالها في المستقبل ، ويكفر بما أنعم الله به عليه قبلها ، وعند النعماء بعد الضراء يأمن عود المكروه في المستقبل ، وينسى ما كان فيه بقوله : [ ص: 251 ]

ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور [هود :10] على غيره ، يفخر عليهم بنعمة الله .

وقال تعالى : إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا [المعارج :19 - 21] ، فأخبر أنه جزوع عند الشر لا يصبر عليه ، منوع عند الخير يبخل به .

وقال تعالى : إن الإنسان لظلوم كفار [إبراهيم :34] ، وقال : إن الإنسان لربه لكنود [العاديات :6] ، والكنود : الجحود الذي يعدد المصائب وينسى النعم .

وقال : إنه كان ظلوما جهولا [الأحزاب :72] ، وقال : وكان الإنسان قتورا [الإسراء :100] ، وقال : وإن مسه الشر فيئوس قنوط [فصلت :49] ، وقال : فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا [الإسراء :67] .

التالي السابق


الخدمات العلمية