الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            3-4/2 مواقف بعض أهل التفسير في تأويل مفهوم السنن:

            نحاول في هذا الجزء من الدراسة عرض بعض آراء أهل التفسير في تفسير قوله تعالى: قد خلت من قبلكم سنن (آل عمران:137) ، ذلك أن هذه الآية الكريمة وبعض آيات أخرى، تكلمت عن السنن الإلهية في الكون والخلق، ولقد أثارت أفكارا مختلفة ونظرات عديدة، ولعل أهم هذه الآراء هو تأويلات أهل التفسير، يقول ابن كثير في معناها:

            «يقول تعالى مخاطبا عباده المؤمنين، الذين أصيبوا يوم أحد، وقتل منهم سبعون: قد خلت من قبلكم سنن أي: قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على [ ص: 100 ] الكافرين، ولهذا قال: فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين » [1] .

            - محمد بن جرير الطبري:

            يعرض الـمفسر والـمحدث والمؤرخ الكبير ابن جرير الطبري إلى العديد من آراء المفسرين وينقل بعضها: «قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: قد خلت من قبلكم سنن ، مضت وسلفت مني فيمن كان قبلكم، يا معشر أصحاب محمد وأهل الإيمان به، من نحو قوم عاد وثمود وقوم هود وقوم لوط، وغيرهم من سلاف الأمم قبلكم.. « »، يعني: مثلات سير بها فيهم وفيمن كذبوا به من أنبيائهم الذين أرسلوا إليهم، بإمهالي أهل التكذيب بهم، واستدراجي إياهم، حتى بلغ الكتاب فيهم أجله الذي أجلته لإدالة أنبيائهم وأهل الإيمان بهم عليهم، ثم أحللت بهم عقوبتي، وأنزلت بساحتهم نقمي، فتركتهم لمن بعدهم أمثالا وعبرا فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، يقول: فسيروا -أيها الظانون، أن إدالتي من أدلت من أهل الشرك يوم أحد على محمد وأصحابه، لغير استدراج مني لمن أشرك بي، وكفر برسلي، وخالف أمري-في ديار الأمم الذين كانوا قبلكم، ممن كان على مثل الذي عليه هؤلاء المكذبون برسولي والجاحدون وحدانيتي، فانظروا كيف [ ص: 101 ] كان عاقبة تكذيبهم أنبيائي، وما الذي آل إليه غب خلافهم أمري، وإنكارهم وحدانيتي، فتعلموا عند ذلك أن إدالتي من أدلت من المشركين على نبيي محمد وأصحابه بأحد، إنما هي استدراج وإمهال ليبلغ الكتاب أجله الذي أجلت لهم. ثم إما أن يؤول حالهم إلى مثل ما آل إليه حال الأمم الذين سلفوا قبلهم: من تعجيل العقوبة عليهم، أو ينيبوا إلى طاعتي واتباع رسولي».

            ثم يتناول آراء أخرى حول ذات الآية من المفسرين الذين يعتمد على آرائهم في تفسيره: وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

            «ذكر من قال ذلك:

            - حدثنا محمد بن سـنان، قال: حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا عبـاد، عن الحسـن في قـوله: قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، فقال: ألم تسيروا في الأرض فتنظروا كيف عذب الله قوم نوح وقوم لوط وقوم صـالح، والأمم التي عذب الله عز وجل؟

            - عن مجاهـد في قـولـه: قد خلت من قبلكم سنن ، يقـول: في الكفار والمؤمنين، والخير والشر.

            - عن ابـن أبي نجـيـح، عن مجـاهد قد خلت من قبلكم سنن ، في المؤمنين والكفار.

            - عن ابن إسحاق، قال: استقبل ذكر المصيبة التي نزلت بهم، يعني بالمسلمين يوم أحد، والبلاء الذي أصابهم، والتمحيص لما كان فيهم، واتخاذه [ ص: 102 ] الشـهداء منهم، فقال تعزية لهم وتعريفا لهم فيما صـنعوا، وما هو صـانع بهم: قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، أي: قد مضت مني وقائع نقمة في أهل التكذيب لرسلي والشرك بي: عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين، فسيروا في الأرض تروا مثلات قد مضت فيهم، ولمن كان على مثل ما هم عليه من ذلك مني، وإن أمليت لهم، أي: لئلا تظنوا أن نقمتي انقطعت عن عدوكم وعدوي، للدولة التي أدلتها عليكم بها، لأبتليكم بذلك، لأعلم ما عندكم.

            - عن قتـادة، قـولـه: قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، يـقول: متـعهم في الدنيـا قـليـلا ثم صيرهم إلى النار.

            قال أبو جعفر: وأما «السنن» فإنها جمع «سنة»، «والسنة»، هي المثال المتبع، والإمام المؤتم به.. يقال منه: «سن فلان فينا سنة حسنة، وسن سنة سيئة»، إذا عمل عملا اتبع عليه من خير وشر» [2] .

            - الطاهر بن عاشور في تفسير التحرير والتنوير:

            الطاهر بن عاشور مفسر وفقيه وعالم معهدي محدث، وقد كتب آراء مختلفة في قضايا متنوعة، وتفسيره يمثل جماعا لآراء مفسرين سابقين اعتمدوا [ ص: 103 ] مناهج مختلفة، وهو يورد العديد من آرائهم في تفسيرهم، فيفسر الآيات على أوجه عديدة، كما أنه يضمنه فكره وتصوراته.. يقول ابن عاشور:

            «السنن اسم مصدر سن، إذ لم يرد في كلام العرب السن بمعنى وضع السـنة، وفي الكشـاف في قوله: سنة الله في الذين خلوا من قبل في سورة الأحزاب: سنة الله اسم موضوع موضع المصدر كقولهم تربا وجندلا، ولعل مراده أنه اسـم جامد أقيم مقام المصـدر كما أقيم تربا وجنـدلا مقام تبا وسـحقا في النصب على المفعولية المطلقة، التي هي من شـأن المصادر، وأن المعنى تراب له وجنـدل له، أي حصـب بتراب ورجم بجنـدل. ويظهر أنه مختار صاحب القاموس، لأنه لم يذكر في مادة سن ما يقتضي أن السنة اسم المصـدر، ولا أتى بها عقب فعل سن، ولا ذكر مصدرا لفعل سن.. وعلى هذا يكون فعل سن هو المشتق من السنة اشتقاق الأفعال من الأسماء الجامدة، وهو اشـتقاق نادر. والجاري بكثرة على ألسنة المفسـرين والمعبرين: أن السنة اسم مصدر سن، ولم يذكروا لفعل سن مصدرا قياسيا. وفي القرآن إطلاق السنة على هذا المعنى كثيرا فلن تجد لسنت الله تبديلا وفسروا السنن هنا بسنن الله في الأمم الماضية.

            والمعنى: قد مضت من قبلكم أحوال للأمم، جارية على طريقة واحدة، هي عادة الله في الخلق، وهي أن قوة الظالمين وعتوهم على الضعفاء أمر زائل، والعاقبة للمتقين المحقين، ولذلك قال: فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، أي المكذبين برسـل ربهم، وأريـد النظر [ ص: 104 ] في آثارهم ليحصل منه تحقق ما بلغ من أخبارهم، أو السؤال عن أسباب هلاكهم، وكيف كانوا أولي قوة، وكيف طغوا على المستضعفين، فاستأصلهم الله لتطمئن نفوس المؤمنين بمشاهدة المخبر عنهم مشاهدة عيان، فإن للعيان بديع معنى؛ لأن المؤمنين بلغتهم أخبار المكذبين، ومن المكذبين عاد وثمود وأصحاب الأيكة وأصحاب الرس، وكلهم في بلاد العرب يستطيعون مشاهدة آثارهم، وقد شهدها كثير منهم في أسفارهم.

            وفي الآية دلالة على أهمية علم التاريخ؛ لأن فيه فائدة السير في الأرض، وهي معرفة أخبار الأوائل، وأسباب صلاح الأمم وفسادها. قال ابن عرفة: السـير في الأرض حسـي ومعنوي، والمعنوي هو النظر في كتب التـاريخ بحيث يحصل للناظر العلم بأحوال الأمم، وما يقرب من العلم، وقد يحصل به من العلم ما لا يحصل بالسير في الأرض لعجز الإنسان وقصوره.

            وإنما أمر الله بالسير في الأرض دون مطالعة الكتب؛ لأن في المخاطبين من كانوا أميين؛ ولأن المشاهدة تفيد من لم يقرأ علما وتقوى علم من قرأ التاريخ أو قص عليه

            [3] .

            - محمد بن علي الشوكاني:

            [ ص: 105 ] يقول الشـوكاني: «والمراد بالسنن ما سـنه الله في الأمم من وقائـعه، أي: قد خلت من قبل زمانكم وقائع سنها الله في الأمم المكذبة، وأصل السنن جمع سنة: وهي الطريقة المستقيمة، ومنه قول الهذلي:


            فلا تجزعن من سنة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها

            والسنة: الإمام المتبع المؤتم به، ومنه قول لبيد:


            من معشر سنت لهم آباؤهم     ولكل قوم سنة وإمام

            والسنة الأمة، والسنن الأمم، قاله المفضل الضبي.

            وقال الزجاج: المعنى في الآية أهل سنن فحذف المضاف، والفاء في قوله: فسيروا سببية، وقيل: شرطية، أي: إن شـككتم فسيروا. والعاقبة: آخر الأمر. والمعنى: سيروا فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين فإنهم خالفوا رسلهم بالحرص على الدنيا، ثم انقرضوا، فلم يبق من دنياهم، التي آثروها أثر.. هذا قول أكثر المفسرين.

            والمطلوب من هذا السـير المـأمور به هو حصـول المعـرفة بذلك، فإن حصلت بدونه فقد حصل المقصـود، وإن كان لمشـاهدة الآثار زيادة غيـر حاصـلة لمن لم يشـاهدها. والإشـارة بقوله: هذا ، إلى قـوله: قد خلت ، وقال الحسن: إلى القرآن: بيان للناس، أي تبيين لهم، وتعريف الناس للعهد وهم المكذبون، أو للجنس، أي: للمكذبين وغيرهم.

            وفيه حث على النظر في سوء عاقبة المكذبين وما انتهى إليه أمرهم.. قوله: وهدى وموعظة أي: هذا النظر مع كونه بيانا فيه هدى [ ص: 106 ] وموعظة للمتقين من المؤمنين، فعطف الهدى والموعظة على البيان، يدل على التغاير ولو باعتبار المتعلق، وبيانه أن اللام في الناس إن كانت للعهد فالبيان للمكذبين والهدى والموعظة للمؤمنين، وإن كانت للجنس فالبيان لجميع الناس، مؤمنهم وكافرهم، والهدى والموعظة للمتقين وحدهم» [4] .

            - تفسير محمد رشيد رضا وآراء محمد عبده:

            أكثر المتوسعين في توضـيح معنى السنن والحديث عنها من المفسـرين كان محمد رشيد رضا في تفسيره، الذي وضعه وخطه وأضاف عليه آراء الأستاذ العالم المجدد محمد عبده، يقول في التفسير:

            «إن إرشـاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سـننا يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علما من العلوم المدونة، لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه، فيجب على الأمة في مجـموعها أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه، كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون، التي أرشد إليها القرآن بالإجمال، وقد بينها العلماء بالتفصيل، عملا بإرشاده، كالتوحيد والأصول والفقه.

            والعلم بسنن الله -تعالى- من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن سـجل عليه في مواضـع كثـيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحـوال الأمم إذ أمرنا أن نسـير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها، ولا يحتج علينا بعدم تدوين [ ص: 107 ] الصـحابة لها، فإن الصحابة لم يدونوا غير هذا العلم من العلوم الشـرعية، التي وضعت لها الأصول والقواعد، وفرعت منها الفروع والمسائل.

            (قال): وإنني لا أشك في كون الصحابة كانوا مهتدين بهذه السنن وعالمين بمراد الله من ذكرها. يعني أنهم بما لهم من معرفة أحوال القبائل العربية والشعوب القريبة منهم ومن التجارب والأخبار في الحرب وغيرها، وبما منحوا من الذكاء والحذق وقوة الاستنباط كانوا يفهمون المراد من سنن الله - تعالى- ويهتدون بها في حروبهم وفتوحاتهم وسياستهم للأمم، التي استولوا عليها، لذلك قال: وما كانوا عليه من العلم بالتجربة والعمل أنفع من العلم النظري المحض، وكذلك كانت علومهم كلها، ولما اختلفت حالة العصر اختلافا احتاجت معه الأمة إلى تدوين علم الأحكام وعلم العقائـد وغيرهما كانت محتاجـة أيضا إلى تدوين هذا العلم، ولك أن تسـميه علم السنن الإلهية أو علم الاجتماع أو علم السياسة الدينية.. سم بما شئت فلا حرج في التسمية.

            ثم قال: ومعنى الجملة: انظروا إلى من تقدمكم من الصالحين والمكذبين؛ فإذا أنتم سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم، وإن سلكتم سبل المكذبين فعاقبتكم كعاقبتهم. وفي هذا تذكير لمن خالف أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحد، ففي الآية مجاري أمن ومجاري خوف، فهو على بشارته لهم فيها بالنصر وهلاك عدوهم ينذرهم عاقبة الميل عن سننه، ويبين لهم أنهم إذا ساروا في طريق الضالين من قبلهم فإنهم ينتهون إلى مثل ما انتهوا إليه، فالآية خبر وتشريع، وفي طيها وعد ووعيد.

            [ ص: 108 ] وأقول: السنن جمع سنة، وهي الطريقة المعبدة والسيرة المتبعة أو المثال المتبع، قيل إنها من قولهم: سن الماء إذا والى صبه، فشبهت العرب الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب، فإنه لتوالي أجزائه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد. ومعنى خلت : مضت وسلفت.

            أي إن أمر البشر في اجتماعهم، وما يعرض فيه من مصارعة الحق للباطل وما يتبع ذلك من الحرب والنزال والملك والسيادة وغير ذلك، قد جرى على طرق قويمة وقواعد ثابتة اقتضاها النظام العام، وليس الأمر أنفا كما يزعم القدرية، ولا تحكما واستبدادا كما يتوهم الحشوية.

            جاء ذكر السنن الإلهية في مواضع من الكتاب العزيز، كقوله في سياق أحكام القتال وما كان في وقعة بدر: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين (الأنفال:38) ، وقوله في سياق أحوال الأمم مع أنبيائهم: وقد خلت سنة الأولين (الحجر:13) ، وقوله في سياق دعوة الإسلام: وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا (الكهف:55) ، وقوله في مثل هذا السياق: فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا (فاطر:43) ، وصرح في سور أخرى، كما صرح هنا، بأن سننه لا تتبدل ولا تتحول كسورة بني إسرائيل وسورة الأحزاب وسورة الفتح.

            [ ص: 109 ] هذا إرشاد إلهي، لم يعهد في كتاب سـماوي، ولعله أرجئ إلى أن يبلغ الإنسان كمال اسـتعداده الاجتماعي، فلم يرد إلا في القرآن، الذي ختم الله به الأديان.

            كان المليون من جميع الأجيال يعتقدون أن أفعال الله -تعالى- في خلقه تشبه أفعال الحاكم المسـتبد في حكومته، المطلق في سـلطته، فهو يحابي بعض الناس فيتجاوز لهم عما يعاقـب لأجله غيرهم، ويثيبهم على العمل الذي لا يقبله من سواهم، لمجرد دخولهم في عنوان معين، وانتمائهم إلى نبي مرسل، وينتقم من بعض الناس لأنهم لم يطلق عليهم ذلك العنوان، أو لم يتفق لهم الانتماء إلى ذلك الإنسان.

            هذا ما كانوا يظنون في دينهم ويسندونه إلى مشيئة الله المطلقة، من غير تفكير في حكمته البالغة، وتطبيقها على سـننه العـادلة، فإن نبههم منبه إلى ما يصـيبهم بل ما أصـاب أنبيـاءهم من البـلاء، قالوا: إنـه -تـعالى- يفعل ما يشـاء، وذلك رفع درجات أو تكفير للسـيئات، وأشباه هذا الكلام، الذي يشتبه عليهم حقه بباطله، ويلتبس عليهم حاليه بعاطله، وقد كان وما زال علة غرور أصحابه بدينهم، واحتقارهم لكل ما عليه غيرهم، فجاء القرآن يبين للناس أن مشيئة الله -تعالى-في خلقه إنما تنفذ على سنن حكيمة وطرائق قويمة، فمن سار على سنته في الحرب -مثلا -ظفر بمشيئة الله وإن كان ملحدا أو وثنيا، ومن تنكبها خسر وإن كان صديقا أو نبيا، وعلى هذا يتخرج انهزام المسلمين في وقعة أحد حتى وصل المشركون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- [ ص: 110 ] فشجوا رأسه، وكسروا سنه، وأردوه في تلك الحفرة; ... ولكن المؤمنين الصادقين أجدر الناس بمعرفة سنن الله -تعالى-في الأمم، وأحق الناس بالسير على طريقها بين الأمم؛ لذلك لم يلبث أصـحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ثابوا يومئذ إلى رشدهم، وتراجعوا للدفاع عن نبيهم، وثبتوا حتى انجلى عنهم المشركون، ولم ينالوا منهم ما كانوا يقصدون.

            وكأن بعض المسـلمين لم يكونوا قد حفظوا ما ورد في السـور المـكية من إثبات سـنن الله في خـلقه، وكونها لا تتبدل ولا تتحـول كسـورة الحـجر وبني إسرائيل والكهف والملائكة أو فاطر - وهي التي ذكرنا بعضها آنفا وأشرنا إلى بعض- أو حفظوا ولم يفقهوه ولم يظهر لهم انطباقه على ما وقع لهم في أحد كما يعلم من قوله الآتي: أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم (آل عمران:165) ، لذلك صرح لهم في بدء الآيات التي تبين لهم سننه أن له سننا عامة جرى عليها نظام الأمم من قبل، وأن ما وقع لهم مما يقص حكمته عليهم هو مطابق لتلك السنن، التي لا تتحول ولا تتبدل.

            ولما كان التـعليم بالقـول وحده من غير تطبيق على الواقع مما ينسـى أو يقل الاعتبار به نبههم على هذا التطبيق في أنفسهم وأرشدهم إلى تطبيقه على أحوال الأمم الأخرى، فقال: فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، قال الأستاذ الإمام: أي إن المصارعة بين الحق والباطل قد وقعت من الأمم الماضية، وكان أهل الحق يغلبون أهل الباطل [ ص: 111 ] وينصرون عليهم بالصبر والتقوى (أي اتقاء ما يجب اتقاؤه في الحرب، بحسب الزمان والمكان ودرجة استعداد الأعداء) وكان ذلك يجري بأسباب مطردة وعلى طرائق مستقيمة، يعلم منها أن صاحب الحق إذا حافظ عليه ينصر ويرث الأرض، وإن من ينحرف عنه ويعيث في الأرض فسادا يخذل وتكون عاقبته الدمار، فسيروا في الأرض واستقروا ما حل بالأمم ليحصل لكم العلم الصحيح التفصيلي بذلك هو الذي يحصـل به اليقين ويترتب عليه العمل، وقال بعض المفسرين: أي إن لم تصدقوا فسيروا، وهذا قول باطل.

            قال: والسير في الأرض والبحث عن أحوال الماضين وتعرف ما حل بهم هو الذي يوصل إلى معرفة تلك السنن والاعتبار بها كما ينبغي. نعم: إن النظر في التاريخ، الذي يشرح ما عرفه الذين ساروا في الأرض ورأوا آثار الذين خلوا، يعطي الإنسان من المعرفة ما يهديه إلى تلك السنن ويفيده عظة واعتبارا، ولكن دون اعتبار الذي يسير في الأرض بنفسـه ويرى الآثار بعينه، ولذلك أمر بالسير والنظر ثم أتبع ذلك بقوله:

            هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين .. قال الأستاذ الإمام (يقصد محمد رشيد رضا) ما مثاله مع زيادة تتخلله: كأنه يقول: إن كل إنسان له عقل يعتبر به، فهو يفهم أن السير في الأرض يدله على تلك السنن، ولكن المؤمن المتقي أجدر بفهمها؛ لأن كتابه أرشده إليها، وأجدر كذلك بالاهتداء والاتعاظ به.. وقد بينا في تفسير الفاتحة أن لسير الناس في الحياة سننا يؤدي بعضها إلى الخير والسعادة وبعضها إلى الهلاك والشقاء، وأن من [ ص: 112 ] يتبع تلك السـنن فلا بد أن ينتهي إلى غايتها، سـواء كان مؤمنـا أو كافرا، كما قال سيدنا علي: إن هؤلاء قد انتصروا باجتماعهم على باطلهم، وخذلتم بتفرقكم عن حقكم.

            ومن هذه السنن: أن اجتماع الناس وتواصلهم وتعاونهم على طلب مصلحة من مصالحهم يكون - مع الثبات - من أسباب نجاحهم ووصولهم إلى مقصـدهم، سـواء كان ما اجتمعوا عليه حقا أو باطلا، وإنما يصـلون إلى مقصدهم بشيء من الحق والخير، ويكون ما عندهم من الباطل قد ثبت باستناده إلى ما معهم من الحق، وهو فضيلة الاجتماع والتعاون والثبات، فالفضائل لها عماد من الحق، فإذا قام رجل بدعوى باطلة ولكن رأى جمهور من الناس أنه محق يدعو إلى شيء نافع، وأنه يجب نصره فاجتمعوا عليه ونصروه وثبتوا على ذلك فإنهم ينجون معه بهذه الصفات.

            ولكن الغالب أن الباطل لا يدوم، بل لا يستمر زمنا طويلا؛ لأنه ليس له في الواقع ما يؤيده، بل له ما يقاومه، فيكون صاحبه دائما متزلزلا، فإذا جاء الحق ووجد أنصارا يجرون على سنة الاجتماع في التعاون والتناصر، ويؤيدون الداعي إليه بالثبات والتعاون؛ فإنه لا يلبث أن يدمغ الباطل، وتكون العاقبة لأهله، فإن شابت حقهم شائبة من الباطل، أو انحرفوا عن سنن الله في تأييده، فإن العاقبة تنذرهم بسوء المصير.

            فالقرآن يهدينا في مسائل الحرب والتنازع مع غيرنا إلى أن نعرف أنفسنا وكنه استعدادنا لنكون على بصيرة من حقنا ومن السير على سنن الله في طلبه [ ص: 113 ] وفي حفظه، وأن نعرف كذلك حال خصمنا، ونضع الميزان بيننا وبينه وإلا كنا غير مهتدين ولا متعظين.

            وأقول: إيضاح النكتة في جعل البيان للناس كافة، والهدى والموعظة للمتقين خاصة، هو بيان أن الإرشاد عام، وأن جريان الأمور على السنن المطردة حجة على جميع الناس، مؤمنهم وكافرهم، تقيهم وفاجرهم، وهي تدحض ما وقع للمشركين والمنافقين من الشبهة على الإسلام إذ قالوا: لو كان محمد صلى الله عليه وسلم رسـولا من عند الله لما نيل منه، فكأنه يقول لهم: إن سنن الله حاكمة على رسـله وأنبيائه كما هي حاكمة على سائر خلقه. فما من قائد عسكر يكون في الحالة، التي كان عليها المسلمون في أحد، ويعمل معه ما عملوا إلا وينال منه؛ أي يخالفه جنده، ويتركون حماية الثغر الذي يؤتون من قبله، ويخـلون بين عـدوهم وبين ظهـورهم وما يعبـر عنه بخـط الرجعة من مواقعهم والعدو مشـرف عليهم إلا ويكونون عرضة للانكسار إذا هو كر عليهم من ورائهم، ولا سيما إذا كان ذلك بعد فشل وتنـازع... فما ذكر من أن لله – تعالى- سـننا في الأمم هو بيان لجميع الناس لاستعداد كل عاقل لفهمه، واضـطراره إلى قبول الحجة المؤلفة منه، إلا أن يترك النظر أو يكابر ويعاند، وأما كونه هدى وموعظة للمتقين خاصة فهو أنهم هم الذين يهتـدون بمثل هذه الحقيقة، ويتعظون بما ينطبـق عليهم من الوقائع، فيستقيمون على الطريقة.. هم الذين تكمل لهم الفائدة والموعظة؛ لأنهم يتجنبون ويتقون نتائج الإهمال، التي يظهر لهم أن عاقبتها ضارة، فليزن [ ص: 114 ] مسـلمو هذا الزمان إيمانهم وإسـلامهم بهذه الآيات، ولينظروا أين مكانهم من هدايتها، وما هو حظهم من موعظتها؟

            أما إنهم لو فعلوا فبدأوا بالسير في الأرض لمعرفة أحوال الأمم البائدة وأسباب هلاكها، ثم اعتبروا بحال الأمم القائمة وبحثوا عن أسباب عزها وثباتها، لعلموا أنهم أمسوا من أجهل الناس بسـنن الله، وأبعدهم عن معرفة أحوال خلق الله، ولرأوا أن غيرهم أكثر منهم سيرا في الأرض، وأشد منهم استنباطا لسنن الاجتماع، وأعرق منهم في الاعتبار بما أصاب الأولين، والاتعاظ بجهل المعاصرين، فهل يليق بمن هذا كتابهم، أن يكون من يسمونه بسمة العداوة له أقرب إلى هدايته هذه منهم؟

            كلا، إن المؤمن بهذا الكتاب هو من يهتدي به ويتعظ بمواعظه، ولذلك جعل الهداية والموعظة من شؤون المتقين الثابتة لهم، والمتقون هم المؤمنون القائمون بحقوق الإيمان، كما قال في أول البقرة: ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون ... وقد مر وصف المتقين وذكر جزائهم في الآيات التي قبل هاتين الآيتين، وهذا التعبير أبلغ من الأمر بالهدى والموعظة، وهو يتضمن الأمر بالثبات فيه والحث على المحافظة عليه؛ لأنه قوام التقوى التي هي قوام الإيمان [5] .

            [ ص: 115 ] وهذه المقتطفة، على الرغم من التطويل بها، إلا أننا أردنا أن نوضح بعض التصورات في توضيح معنى السنن وهو معنى مرتبط بالقرآن، والمفسرون هم أقرب أهل العلم ارتباطا بمعاني القرآن وتوضيحا لمقاصد الآيات ومراميها.

            وكما أشرنا، فإن التحولات في التاريخ مرتبطة أيضا باستقرائه، ومحاولة فهمه، عبر الاتعاظ والتدبر والتأمل.. وأصحاب مقاربة الاستشراف ضمن نظريات «أسلمة التاريخ» يحاولون الوصول إلى نقطة إدراكية في علم التاريخ تخدم فكرة النبوءة والمعرفة القبلية والاستنتاج بناء على الوقائع.

            فالاستشراف هنا يحمل في مضمونه اللغوي معاني النظر إلى شيء قادم من بعيد، والتطلع إليه، ومحاولة التعرف عليه، واتخاذ أسباب التوصل إلى ذلك بدقة، كالصعود إلى مكان مرتفع يتيح فرصة استطلاعه قبل وصوله، فهو: استطلاع مبكر للمستقبل، في ضوء معطيات الحاضر والتحديات المستقبلية، التي تفرضها طبيعـة النمو والتحول والتطور والطموح.. وهو إلقاء نظـرة فاحصة على المستقبل بمنظار تتكون عدساته من عبـق تجارب الماضي ونتائج وثمرات الحاضر ومؤشرات التطلع المستقبلي.

            إنـه عمليات علمية، أساسها التخطيط، وتستهدف حشـد الطاقات، وتوفير الإمكانات اللازمة، وترشيد استخدامها لمواجهة أعباء المستقبل وتحقيق الغايات المرجوة والمتوقعة فيه.

            إن الرؤية القرآنية للسنن، كما أوضحنا في أكثر من موضع في هذه الدراسة، وتبلور هذه الرؤية، يبدو جليا في عدد من الآيات.. بعض هذه [ ص: 116 ] الآيات قدمت الفكرة بصورتها العامة، وصياغتها الكلية، فيأتي التعبير القرآني عن الفكرة مجملا..

            وبعض الآيات الأخرى أعطت الفكرة على مسـتوى النماذج والشـواهد الفعلية..

            وفي بعض الآيات الأخرى نلحظ أن القرآن يحث على الاستقراء والتتبع للشواهد القرآنية التاريخية من أجل الوصول للقانون التاريخي، ومن بين هذه القوانين التاريخية هو «عاقبة سلوك الأمم والجماعات» قبل البعثة المحمدية، والغرض في هذا العرض القرآني لعاقبة المجتمعات السابقة هو غرض إرشادي توجيهي إعلامي، فنجد أن الأفعال التي تغلب على جماعة ما أو أمة ما، كقتل الأنبياء وتكذيبهم عند بني إسرائيل، وكصفة اكتفاء الرجال بالرجال كما عند قوم لوط، والإعراض عن الدعوة وعدم الاسـتجابة للنذير كما في قوم نوح، عليه السـلام، وغير ذلك من الصـفات والأعمال، التي تغلب على طائـفة أو جماعة أو قوم، فقد قضت السنن التاريخية أن العقاب الرباني تجاه هذه الأمم يشمل الجميع دون استثناء [6] .

            ومن السنن الربانية، التي عرض لها الذين كتبوا في العلوم الإسلامية والدراسات الشرعية، ما يلي:

            [ ص: 117 ] - سوء عاقبة المكذبين: وتلتمس في قوله تعالى: وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا (الفرقان:37–39).

            - البشر يتحملون مسـؤوليتهم في الرقـي والانحـطاط وفي اتبـاع الحق أو الباطل: قال تعالى: قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة:38).

            - مداولة الناس بين الشدة والرخاء، ومن الرخاء إلى الشدة.

            - زوال الأمم يكون بالترف والفساد، قال تعالى: ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد … (الفجر: 6 -8).

            - انهيار الأمم وزوالها يكون بأجل: قال تعالى: ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (الأعراف: 34) [7] .

            [ ص: 118 ] وغير ذلك من السنن، التي يشير إليها العلماء على أنها قدر مقدور من عند الله عز وجل، حيث تواضعت السنن الكونية على عدم التحول أو التغير، والاستمرار مادام الكون قائما.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية