الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            خاتمة

            وفي خاتمة هذه الدراسة نود أن نؤكد أن البعد المحدد لها هو محاولة الوقوف على منحى معرفي مهم، يتمثل في إيجاد وتأكيد نوعية المعرفة الإسلامية، وعلى تجردها وحيادها واستيعابها للمنطق الإنسـاني في السـعي نحو العلوم، لقد مضينا في فهم ظاهرة تأمل القرآن في صورتها الفلسفية والتكاملية، متمثلة في المقاربات الإسلامية في تناول التاريخ وتأسيسه ورسم غاياته ومقاصـده ومراميه، وفي فهم تركيبه وتراتبية أحداثه ووقائعه، ثم السـعي إلى استخلاص قوانينه وسننه ومحددات تحققه ووقوعه.

            إن الناظر إلى كتاب الله عز وعلا لا يمكن إن يصل فقط إلى نتيجة محدودة قاصـرة وبسـيطة تجعل من سـوره وآياته ذات البـعد التاريخي مجرد إيحاء لطلب العظة، أو إيعاز بتفسير العبرة لفرد واحد دون الأمة، فيعمل بذلك أو لا يعمل، ولكن الناظر الباحث والمتأمل، الذي يحركه شغف الفهم وطلب الحكمة والفوز بحقيقة كلية وافية، يدرك أن القرآن الكريم، الـمنزه عن كل عيب، إنما يقف التاريخ ضمن فلسفاته في فهم الظاهرة الإنسانية وإدراكها، وتفسير حركتها وسكونها.

            [ ص: 258 ] فالإنسـان في تاريخه وحاضره إلى صـيرورته، يجد نفسـه أمثولة في القرآن، ثم هو في ظل المجتمعات والتحولات وإرادة التغيير والتطور والانقلاب والتجديد واليقظة والمحو والصحو، تقف آيات الكتاب الكريم تدلل على كيفية حدوث ذلك، وأقول: إن أوضح دليلين على أهمية الفكر التاريخي في القرآن الكريم:

            إن الظاهرة التاريخية في كتاب الله لا تتوقف ولا تنقطع، فهي دائبة ودائمة ومهيمنة على كتاب الله. أضف إلى ذلك الرؤية التاريخية، التي تعبر عنها آيات الكتاب، فهي تتضمن فلسفة الحدث التاريخي، كما أنها تقوم على الاستشراف المستقبلي للأحداث.

            وهذان الأمران: الوجود للتاريخ بلا توقف والرؤية التاريخية، كلاهما يظهر أن الفوائد في فهم الآيات ذات المنطوق والمضمون التاريخي، ليس مجرد العظة والعبرة.. وفي قصر المعاني الواسعة المرجوة وقفل الأبواب المشرعة ظلم للمسلمين وظلم للقرآن ذاته.

            كذلك مما نوهت به هذه الدراسة، أن ثمة محاذير في إطلاق مفهوم «التفسير الإسلامي للتاريخ»، فقد اتجهت بعض الكتابات المعاصرة إلى توقع الأخذ بعلم التاريخ وبالتاريخ الإسلامي نفسه في محل قداسـة الإسـلام، وإنـزاله منازل لا يصح بعدها التجريح والتصحيح، وإن كانت علوم الشريعة نفسها خاضعة للتجريح والتصحيح، فكما سعت من قبل مدارس في الكتابة التاريخية مثل القومية والماركسية والتفسير الديني والربوبية وحتى المادية المتطرفة، إلى الدفاع عن فكرتها بكل جارحة وبيان وسنان، أراد هؤلاء (التفسيريون [ ص: 259 ] الجدد) ، إذا صحت لنا هذه التسمية، محاولة رسم صورة علمية لمذهب إسـلامي واحد يظهره التـاريخ الإسـلامي ويجسـده ويقويه ويغذيه، فلا يبقى في التاريخ الإسـلامي غيره، ثم تمضـي المـذاهب الإسـلاميـة الأخرى وتظهر في التـاريخ الإسـلامي أنها على البـاطل أو الضـلال، فندخل تارة أخرى، بل وتارات في ما نوه به ابن خلدون من تزييف التاريخ.

            ويؤكد الباحث أن المناهج الحديثة في التأليف والتصـنيف والتبويب والنقد والدرس والبحث، غربية المنشأ في نسختها الأخيرة، والعلوم ذات حيدة لا تعرف بلدا ولا موطنا ولا دينا إلا الحق والوصول إلى الحقيقة، فمن الظلم للمسلمين ولها، أن توسم العلوم بوسـم يحجبها عن الآخرين، وهذا لا يمنعنا من القول: إن القصور والنقص في مناهج العلوم الحديثة أصله إنما كان بسبب إقصاء الأبعاد الروحية في التجربة الإنسانية.

            وتؤكد الدراسة أن المكاسب الإنسانية الحضارية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية في تطوراتها المختلفة، ليس حكرا على أمة بعينها أو قومية وحيدة دون الأخريات، وإنما هي تجربة تنهل منها الأجيال جميعا.. وهو مما لا ينفي الخصوصية والذاتية في المكون الإسلامي، في جانب علومه الاجتماعية، خاصة علم التاريخ، ولا يقصي أي بحث عن هوية معلمة بتفرد، لكن دون إفراط وتعصب وترفع، أو في سذاجة قاصرة لا تعبأ بمن حولها.

            [ ص: 260 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية