الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            2- ابن خلدون.. ومكانته في تفسير التاريخ:

            ناقشنا في الفصل المدخلي من الدراسة بعضا مما قدمه ابن خلدون من تحول في فهم المعاني والقيم التاريخية، حيث أورد بلا شك تصورا استثنائيا في مجال الكتابة التاريخية، وعلى الرغم من وفرة المادة المـعرفة بابن خلدون، فإنه لا يضيرنا هنا ربـطا للأفـكار، التي نسـوقها من إعادة وصـف جـانب من مجهودات ابن خلدون في هذه الناحية.

            لقد نوه ابن خلدون بداية بأهمية فن التاريخ ودلالته وقيمته عبر الزمان لدى جميع الأمم والشعوب، ثم وصف كيف أن المؤرخين المسلمين قد وضعوا كتبا عديدة استوعبوا فيها أخبار الأيام وجمعوها، وكيف أن بعض كتاباتهم قد تم الدس فيها، بأقوال باطلة، وروايات ضعيفة ملفقة تلفيقا، وكيف أن كثيرا من الروايات التاريخية لم يهتم فيها أو يتم العناية بها، بالأسـباب التي كانت عـاملا محركـا للحوادث والوقائع في التـاريخ.. أيضا قد ضمت بعض من هذه الـمصنفات بعض ترهات الأحاديـث، فالتحقيق فيها قليل والتنقيح ضـعيف، وكثر بها الغلط والوهم [1] .

            [ ص: 161 ] ويعد ابن خلدون متقدما جدا في منهجه وأساليب كتابته بالنظر إلى من سبقه من المؤرخين المسلمين، ومن عاصره كذلك.. ففي تطور مفهوم تحليل ودراسة التاريخ نلاحظ أن ابن خلدون قد وفر معاني مختلفة عن تلك التي قدمها من سبقه، فالطبري والمسعودي والمقريزي كلهم ممن سبق ابن خلدون.

            فمحمد بن جرير الطبري -كما أشرنا في غير هذا المحل- في مقدمة كتابه «تاريخ الأمم والملوك»، ذكر أنه اكتفى بذكر مشاهداته الخاصة، والنقل عن الرواة نقلا أمينا دون أن يشك في رواياتهم وأخبارهم.. يقول شارحا منهجه في الكتابة التاريخية: «وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه، مما شرطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي مسـندها إلى رواتها فيه، دون ما أدرك بحجـج العقول واسـتنبط بفكر النفوس إلا اليسـير القليل منه.. إذا كان العلم بما كان من أخبار الماضين وما هو كائن من أنباء الحادثـين غير واصـل إلى من لم يشـاهدهم، ولم يدرك زمانهم، إلا بأخبار المخبرين ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول والاستنباط بفكر النفوس، فما يكن في كتـابي هذا من خبر ذكرنـاه عن بعض الماضـين، مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة ولا معنى في الحقيقة، فيعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتي من قبل بعض ناقليـه إلينا، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا» [2] .. فهو لم يدع تمحيصـا أو تدقيقا للأخبار، التي بين يديه، ليميز ما بين صدقها وكذبها.

            [ ص: 162 ] أما المسعودي فقد ارتفع عن الطبري درجة، حيث قدم نقدا لمن سبقه، فأثنى على ابن قتيبة والطبري ونفطويه والصـولي لغزارة المادة المكتوبة لديهم، وتنوع الأخبار التي حوتها كتبهم، وعاب على سنان بن ثابت بن قرة الجرجاني؛ لأنه انتحل ما ليس من صناعته، واستنهج ما ليس من طريقته، وقد اعتمد على الثقات من المؤرخين، غير أن ثقته تلك في بعض رواة الأخبار لم يصحبها منهج علمي في تصـفية الحروادث، فنقل غثـها وسمينها، ولذلك نجد أن ابن خلدون قد قدم نقدا لاذعا بحقه.. أما المقريزي فقد كان ينقل من الكتب، ويروي عن أهل العلم وجلة الناس، ويكتب جراء مشاهداته أيضا، وينسب كما ذكر ما نقله إلى صاحبه، ويذكر في الغالب من حدثه بالخبر، كما قدم نقدا لبعض من كتب في العلوم ممن عاصره أو خالطه، ووصف هؤلاء أن بهم عجزا في معرفة العلم [3] .

            ويعاب على تاريخ المقريزي أنه ربما كتب كتابا كاملا عن بلد ما اعتمادا على روايات بعض أهلها أو بعض من زارها، مثلما فعل في رسالته عن الحبشة، والحبشة أرض قريبة منه، لكنه لم يهتم أن يحقق الأمر بنفسه.

            حاول ابن خلدون أن يبين من خلال مقدمتـه أن الوفرة في المادة المكتـوبة ليس مدعاة لقبول الأخبـار والتصـديق بها، ومهما كان اسـم المؤرخ عظيـما أو معروفا فإنه ينبغي للمرء أن يحتاط في أخذ الخبر، وأن يكون له مقياس ومعيار لقياس الدقة في التاريخ، ولقد ضرب مثلا بابن إسحاق، والطبري، وابن الكلبي، [ ص: 163 ] ومحمد بن عمر الواقـدي، ثم المسـعودي، وهـؤلاء معروفون وفـق ما يقول، وقد اختصهم الكافة بقبول أخبارهم، واقتفاء سننهم في التأليف، إلا كتب بعضهم لا تخلو من المغمز والمطعن كما عند الواقدي والمسعودي.. وعاب أيضا على بعض المؤرخين اختصارهم للخبر والاكتفاء بذكر أسماء الملوك ونتف عن الأخبار والأنساب، كما فعل ابن الرشيق في مصنفه «ميزان العمل» [4] .

            لقد وضع ابن خلدون قواعد وسننا وقوانين تنظم تاريخ المجتمعات والحضارات في نشوئها وارتقائها وانهيارها، فمفهومه، وفقا لما أشرنا، لا يعتبر التاريخ مجرد أحداث وليدة الصدفة، بل هي تجري تبعا لنظام وقوانين ينبغي إدراكها، وهذا شبيه بالمفهوم المعاصر في تحليل التاريخ.

            ومن السنن التي أشار إليها ابن خلدون:

            «السببية»، أي ارتباط الوقائع ببعضها، ولكل حادث سبب، وهذا الارتباط حتمي وطبيعي..

            ثم قانون «التشابه»، أي أن الظروف متشابهة فهي التي تنتج الحادث..

            ثم قانون «التطور»، أي أن الشؤون تتبدل بتبدل الأزمان والأماكن، والتشابه ليس أمرا مطلقا..

            ثم قانون «المطابقة»، وهو يوجب على المؤرخ معالجة المسائل التاريخية استنادا على منطق العقل والحس السليم، وبذلك لا يكون المؤرخ الحق مجرد سارد للأخبار، ناقل لها [5] .

            [ ص: 164 ] اهتم أصحاب «التفسير الإسلامي للتاريخ» ودعاته بمحاولة إبراز الجوانب، التي تخدم قضـيتهم في فكر ابن خلدون، وقد سـعوا إلى اعتبار أن ما سـطره ابن خلدون قد كتب تأثرا بالقرآن، وإعمالا لروحه وقيمه، وأرادوا أن يدفعوا عن ابن خلدون كل محاولة تضعف من مكانته أو تقلل من قيمته أو تحاول إظهاره على أنه صاحب نزعات عقلية علمانية لا تقبل بالدين.. وظهر هذا الاتجاه واضحا في مصنف عبد الحليم عويس والذي عنوانه: «التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون»، وأيضا في سفر عماد الدين خليل: «ابن خلدون إسلاميا»، وذلك في مقابل كتابات عديدة أخرى، ابتدأت بكتاب طه حسين وكتابات أخرى حاولت أن تصنف ابن خلدون ضمن الحيز المقابل للدين.

            اعتبر الناشرون لكتاب عبد الحليم عويس العناية بابن خلدون هي استكمال للطرح الخاص بالعناية بالقصص القرآني والنظر في كتاب الله من ناحية السنن وقوانين الوجود، بينما نلحظ أن عبد الحليم عويس وفي مقدمة الكتاب قد ضمن مساحة تبين بعض المجهودات في دراسة ابن خلدون والتي كان هدفها هو بناء أنموذج لعالم مسلم تراثي علماني، مشيرا إلى طه حسين في أطروحته عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعية والتي يرى عويس أنها قد كانت محاولة لتجريد ابن خلدون من تأكيد ريادته في علم الاجتماع، ومحاولة للقول: إن ابن خلدون قد فصل السياسة عن الأخلاق والقانون والاعتبارات الدينية.. كذلك تحدث عن دراسة علي أومليل والتي عنوانها: «الخطاب التاريخي: دراسة لمنهجية ابن خلدون»، ويذكر صاحب الكتاب أن أومليل كان يرى أن جميع الأحاديث المتصلة بفلسفة التاريخ عند ابن خلدون هي أحاديث في غير موضعها، فهو لم يكن صاحب [ ص: 165 ] طريقة قصـدية في إدراك التـاريخ، بصـفته معطى موضـوعيا وعنصـرا فاعلا، أو التفكير في المبادئ المحركة للتاريخ وغايته، كل ذلك كان مرتبطا تاريخيا بتطور الفكر الغربي.. ثم يقارن بين ما ذهب إليه هؤلاء وبين ما عبر عنه بعض كبار المؤرخين الغربيين من إعجاب متزايد بفكر ومنهج ابن خلدون، من أمثال «أرنولد توينبي»، المتوفى في سنة 1975م والذي يرى أن ابن خلدون قد وضع فلسفة التاريخ، وهي أعظم عمل من نوعه ابتدعه عقل في أي مكان أو زمان [6] .

            لكننا أيضا يجب أن نشـير إلى بعض رواد مدرسـة التاريخ الجديد، الذين لم يكن يعجبهم أجزاء مما ذهب إليه «توينبي» في تأثره بابن خلدون.. ومدرسـة التاريخ الجديد، وقد ألمعنا إلى طرف مما نادت به في فصـل سـابق، اعتبرت أن ما لديها من أساليب تفكير ليست هي مجرد منهج للبحث التاريخي، وإنما يشتمل على عناصر أخلاقية أخرى، كما أنها قادت إلى اعتماد أنواع جديدة من المصادر، مثل: التاريخ الشفهي والتراث المادي وغيرهما.

            لذلك نجد «جاك لوغوف» في مقـاله: «التـاريخ الجديـد»، يتحـدث عن عمل «توينبي» عن الحضـارة، فلقد ألمح إلى ما ذكره أساتذة «الحوليات» من ضرورة التفريق بينها وبين تصور «توينبي» عنها، وقد عدد «توينبي» ما يزيد عن عشرين حضارة منذ بدء الخليقة، وتمر هذه الحضارات في تصوره بمراحل ثلاث متعاقبة: هي النشوء والنضج والأفول، وذلك بحسب قانون التحدي والاستجابة والقدرة على رد الفعل ضد العوامل الخارجية والداخلية.

            [ ص: 166 ] ويعقب «لوغوف» على هذا التصور أن الحضارة في فكر «توينبي» عبارة وفكر فضفاضان، فيهما دمج متعسف للمجتمع، كما أنه -بحسب عباراته-يستعمل في ذلك منهج المقارنة بطريقة فجة وغير مضبوطة، مبنية على كثير من المغالطات التاريخية، كما أنه عاب عليه طريقة تقسيمه للحضارات، وقد صعد نقده للدرجة التي زعم بها أن عرضه للحضارات قام على تمثيل صورة عاطفية، ومن ناحية أخرى يقدم فلسفة التاريخ من دون أن يكون فيها التاريخ علميا.

            وأخيرا يقول «لوغوف»: «وأعتقد أن كل المؤرخين الذين ينتسبون إلى التاريخ الجديد يتفقون، ولو بفوارق دقيقة مع لوسيان فافر إن التاريخ على نهج توينبي، على رغم جـاذبيته، وعلى رغم اتسـاع نظـرته، وعلى الرغم من رغبته في تناول التاريخ بصورة كلية، هو مسودة تاريخ كتبت في أغلبها اعتمادا على مصادر غير أصلية بفلسفة سطحية، فهذا التاريخ ليس التاريخ الذي نريده» [7] .

            وفي هذا نقد كبير لتوينبي واتجاهاته في عرض التاريخ ولمصادره كذلك، وبالطبـع من أهمها مقدمة ابن خلدون، لكن ينبغي أن لا نغفل ما نوهنا به من أن مدرسة التاريخ الجديد هي مدرسة متأثرة بالمادية الماركسية، وهو الاتجاه الآخر المقابل لفهم التاريخ إزاء المدرسة الإسلامية أو أية مدرسة ربما تؤمن بالفاعلية الروحية والغيبية في حركة التاريخ، لكن بصورة عامة إنما نعنى هنا ببعض اعتراضات الأكاديميين، التي يمكن أن تحمل بعض الصواب، ويكون فيها ما بني على أسس علمية صحيحة.

            [ ص: 167 ] كتب عماد الدين خليل مؤلفه: «ابن خلدون إسلاميا» ليبين أخطاء المستشرقين في تحليل فكر وكتابة ابن خلدون.. فلقد ادعى بعضهم نحو «بوير»، و«فنسـدنك»، و«شمت» وغيرهم، الذين قالوا: إن ابن خلدون لم يتـأثر بالدين ولم يكن لاستشهاداته القرآنية علاقة جوهرية بتدليله، وإنما فعل ذلك لإيجاد صلة بينه وبين القراء، تقربا وتملقا منه، وكما زعموا فقد تحرر ذهنه من القيود الفكرية.. وهو ينكر أن يكون ما كتبه عن ابن خلدون هي محاولة للدفـاع عنه، وهو يظن أن كثيرا ممن درسوا ابن خلدون اتخذوا موقفا نقديا إزاء المقدمة.

            ويرى خليل أنه لا يمكن الجزم بأن جميع ما ذهب إليه ابن خلدون كان صوابا، فقد تضمن تصوره الديني بعض الأخطاء والثغرات، فيجب كما يظن خليل: «أن ننزل بابن خلدون إلى موقعه الحقيـقي، ونعطيـه حجمه المعقول على مسـتوى المقدمة كلها، ووجب كذلك ألا نتصـور معطيـاته الدينيـة إبداعا كاملا» [8] .

            ناقش خليل ما سماه طروحة ابن خلدون عن أثر الدين في الواقعة التاريخية، وكذلك تفسيراته الدينية للعديد من وقائع التاريخ الإسلامي، وكذلك وقائع التاريخ بصورة عامة، فابن خلدون يرى أن ما من دولة كبيرة إلا وأصلها الدين، فهو يفسـر أن الـملك إنما يتم بالتغلب، والتغلب يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطـالب، وجمع القـلوب -كما يظن- وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله [ ص: 168 ] في إقامة دينه، ويشير إلى قوله تعالى: لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم (الأنفال:63).

            وابن خلدون يعتقد أن رفض الدنيا والانصراف إلى الحق والإقبال على الله فيه صرف لدواعي التنافس وقلة الخلاف وحسن التعاضد والتعاون، وبذلك تعظم الدولة، ويسمي عماد الدين خليل هذا بالمعامل العقائدي، ذلك الذي يشد طاقات الجماعة البشرية الواحدة، التي تنتمي إلى عقيدة ما، ويوجهها صوب هدف واحد، ولذلك ابن خلدون يرى مرة أخرى أن الدعـوة الدينية أكثر قوة من العصبية، التي اعتبرها أساسا لقيام الدول؛ ذلك لأن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية، وتفرد الوجهة للحق، ودليله على ذلك ما وقع للعرب في صدر الإسلام في الفتوحات، فكانت جيوش المسـلمين في القادسية واليرموك بضعا وثلاثين ألفا في كل معسكر، وجمع فارس مائة وعشرين ألفا في القادسية، وجموع هرقل - على ما قاله الواقدي- أربعمائة ألف، فلم يقف للعرب أحد من الجانبين - يقصد فارس والروم- واعتبر ذلك أيضا في دولة لمتونة ودولة الموحدين، فقد كان بالمغرب من القبائل ممن يقاومهم في العدد والعصبية أو يشف عليهم، إلا أن الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة.. ويعتبر خليل أن ما ذهب إليه ابن خلدون فيه تحييد لقيمة العصبية في حال دخول الدين عنصرا فاعلا ومؤثرا، وكما يظن خليل فإن في ذلك تأكيدا من ابن خلدون على مكانة الدين وأثره الفاعل على كل أمر [9] .

            [ ص: 169 ] وكما أشرنا، فإن خليل وعبد الحليم عويس يمضيان في كل ما يصورانه عن ابن خلدون في مقدمته أنه لا يصدر عن منطلقات علمانية أو وفق روح دنيوية دهرية، ولكن الذي كان يحدوه ويقوده ويحركه أن كل ذلك وفق منهج إسلامي، وانبثاقه عن روح إيمانية.

            يرى عويس محاولا توضيح هذا المعنى، أن ابن خلدون هو على نسق من سبقه من العلماء المسلمين الموسوعيين، الذين كانوا يمزجون بين العلوم الشرعية والإنسـانية والطبيعية، ويرونها كلها إذا صحت النية علوما إسلامية، فأي محاولة -كما يظن- للنظر إلى ابن خلدون بعيدا عن انتماء عقله للمنهجية الإسلامية القرآنية هي محاولة محكوم عليها بالفشل.

            وعويس يرفض بقوة أية تصورات تحاول أيضا أن تجعل من ابن خلدون ومقدمته هما نتاج منهجية معينة عصـرانية أو ظرفية، تاريخيـة أو تحديثيـة، ويظن أن بعض الدعوات تحت مسـميات عديدة، تأويلية أو ألسـنية أو سـوسيولوجية أو تاريخانية أو قراءة عقلانية معصـرنة، كل ذلك إنما المراد منه تحريف لما قدمه ابن خلدون [10] .

            لذلك نجد عبد الحليم عويس يضع كل معنى اتجه إليه ابن خلدون - تقريبا- في وصف صيرورة التاريخ وحركته إنما هو مقتبس من أصل قرآني، مثلا: نظراته حول الدورات التاريخية المتعاقبة إنما كانت فقها اجتماعيا خلدونيا لما جاء به [ ص: 170 ] القرآن الكريم والسنة النبوية حول تداول الأيام بين الناس، وحول أثر الظلم، والترف، والكفر بأنعم الله، قال تعالى: لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (يونس:49) ، وقال تعالى: وتلك الأيام نداولها بين الناس (آل عمران:140) ، وقال تعالى: وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (النحل: 112) [11] .

            إن عويس يتبنى مقاربة بكل تأكيد تصـب غضبا كاملا، كما يبدو، على كل اتجاه يرفض أية روح دينية صـبغت ابن خلدون، بل هو يريد أن يصـنع من ابن خلدون ممثلا للاتجاهات الإسلامية في صياغة فكرة ربما تكون، حسب تصوره، أقرب للإيديولوجيا منها إلى الفكر المتسق بروح المفكر، الذي يغلب العلم، حتى وإن كان الدين والقرآن والمنطق النبـوي هو هاديـه وقائده وموجهه.. ولا تعارض فيما أظن بين المنطلقين، لذلك في ضوء ما عرضنا إليه، يمكننا أن نشـير إلى أن أطروحة عماد الدين خليل -وكما أوضـحنا سـلفا- ربما تبدو في عرضها ومنطقها أكثر تركيزا واستنادا على الفهم العلمي المناسب لتوافقية وتراتبية التنظير المتسق، إن جاز لنا الحكم بهذا المعنى.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية