الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            الفصل الثالث

            أسلمة التاريخ.. أفكار ورواد

            1- لمحة موجزة عن تطور فكرة تفسير التاريخ عند المسلمين:

            لاحظنا كيف أن عناية المسلمين بكتابة التاريخ لم تظل مجرد أسمار وحكايات يديرونها في الليالي الهادئة، فالقرآن قد غير فكر المسلمين ومعارفهم واتجاهاتهم في الوعي، كما أن اطلاع المسلمين على أحوال الأمم والشـعوب من حولهم، بعد حركة الفتوحات، قد عرف المسلمين أن هذه الأمم ذات عناية خاصة بتاريخها وأخبارها القديمة، ولذلك نجد المسعودي يقول:

            «ليس أمة من الأمم، ممن سلف وخلف، إلا ولها تاريخ ترجع إليه وتعول عليه في أكثر أمورها، ينقل ذلك خلف عن سلف، وباق عن ماض، إذ كان به تعرف الحوادث العظام، والكوائن الجسام، وما كان في الأزمان الماضية والدهور الخالية، ولولا ضبط ذلك وتقييده لانقطعت الأخبار ودرست الآثار، وجهلت الأنسـاب، ولذلك أخذ «الأسـكندر» أهل مملكتـه بتقييـد أيامه وحفظ تاريخه وسيره، لكيلا يضيع ما بان من أمره وحمد من سعيه، ولا يجهل كثرة من ناصب من الأعداء وقتل من الملوك،… واحتذى فعله «أردشـير بن بابك».. قام بضبط سـيرته وعهوده وأيامه وحروبه، إلا أنه أطرح ما كان قبل ذلك [ ص: 152 ] وتناسـاه، لكي يكون الذكر لأيامه وسـيرته، فضـبط ذلك ضـبطا شـديدا إلى «يزدجرد بن شهريار» آخر ملوكهم [1] .

            ونجد المسعودي، بالإضافة إلى تناوله لأهمية التاريخ وأثره على الأمم وعناية هذه الأمم به، يشرح أيضا لماذا أن بعض من كتبوا التاريخ عمدوا إلى إخفاء بعض جوانبه ودفنها وعدم إظهارها لأغراض سـياسية(!) وفي ذلك عناية بتحليل وتفسـير المادة التاريخية التي بين يديه، وحرص على وصف مظاهر الحدث التاريخي ونقده.

            ومن الواضـح أن المسـعودي وهو صـاحب أكثـر من مؤلف تـاريخي، مثل «مروج الذهب»، و«فنون المعارف»، و«ذخائر العلوم»، و«الاستذكار»، وكلها كتب تاريخية، حرص على توضيح البدء بالتاريخ منذ بدء العالم، ثم ذكر الشعوب والأمم التي عرفها المسلمون، وتدوين كل ما ظهر وبدر لدى تلك الأمم من أحوال وأفعال وشؤون وأمور أثرت على تاريخهم.

            ومن ضمن ما اهتم بتأريخه وحرص على تدوينه أيضا: «ما على ظهر الأرض من عجيب البنيان، وما قاله الناس في مقدار عمر العالم ومبدئه وغايته ومنتهاه، وعلة طول الأعمار وقصرها، وآداب الرياسة، وضروب أقسـام السياسة المدنية، الملوكية منها والعامية، مما يلزم الملك في سياسة نفسه ورعيته، ووجوه أقسـام السـياسة الديـانية، وعدد أجزائـها، ولأي علة لابد للمـلك من دين، [ ص: 153 ] كما لابد للدين من ملك، ولا قوام لأحـدهما إلا بصـاحبه، ولم وجـب ذلك وما سببه؟ وكيف تدخل الآفات على الملك، وتزول الدول، وتبيد الشرائع والملل؟ والآفات التي تحدث في نفس الملك والدين…» [2] .

            وهكذا، فإن المسـعودي، كما أشـرنا، لا يعتبر نفسه مجرد راصد للأحداث أو متتبع لكتابتها وتحريرها، وإنما هو مؤرخ، يدون ليحلل وينقد، ويناقش الظواهر، ويتساءل: كيف؟ ولماذا؟ في كل مضرب وكل ناحية، ابتداء من التاريخ ثم علم السياسة، ثم الأديان والاجتماع، وغير ذلك.. إن تفسـير التاريخ ومحاولة فهمه والوعي به وإدراكه، لم يكن بعيدا عن مرحلة وتجربة وعناية المسعودي.

            قد لا يوجد تحديد واضـح لفترة الكتابة التـاريخية، وإن كان بعض المؤرخين يعتبر أن بداية القرن الثامن هي الفترة التي بدأ بها علم الكتابة التاريخية في التبلور والتشكل في ظل الحضارة الإسلامية، لكن من المناسب أيضا توضيح أن دراسة التـاريخ والكتابـة عنه بدأت عند المسـلمين في فترة مبـكرة، وتوجد لدينا إشـارات عن وجود مادة تاريخية عند المسلمين منذ منتصف القرن الأول الهجري، فلقد أشار ابن النديم في «الفهرست» إلى أن زياد بن أبيه قد وضع كتابا في مثالب العرب..

            كما جاء في كتاب «التحفة البهية والطرفة الشـهية» إشـارة لكتاب النسـابة البكري وعنوانـه: «التظافر والتناصـر»، ويتناول مجالس وأسـمار في بلاط معاويـة بن أبي سـفيان.. كذلك ترد مرويات ابن عباس في الناحية [ ص: 154 ] التاريخية أيضا ضمن شـواهد العناية بالتاريخ.. وممن اشتهر بالتأليف في المغازي أبان بن عثمان بن عفان، المتوفى في 105 هجرية تقريبا [3] .

            وأيضا كتاب «الملوك وأخبار الماضين» لعبيد بن شربة، الذي أورده صاحب «الفهرست»، الذي ذكر أن عبيد بن شربة قد قدم على معاوية والذي سأله بدوره عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبلبل الألسنة وأمر افتراق الناس في البلاد فدون ما قاله ابن شربة [4] .

            وقد ذكر «ابن النديم» طوائف من الذين وضعوا كتبا تاريخية بعد ذلك، من أمثلة: محمد بن السائب الكلبي (توفي سنة 147هـ) ، وعوانة بن الحكم (توفي سنة 147هـ) ، وقد ألف كتابا سماه «التاريخ»، وكتابا آخر في سيرة معاوية وبني أمية، ثم محمد بن إسحاق، صاحب السيرة (توفى سنة 151هـ) ، الذي أكمل بناءها التاريخي، وتضمنت سياقا موجزا لتاريخ الأنبياء وتاريخ العرب قبل البعثة النبوية، والسيرة والمغازي وتاريخ الخلفاء، وقد أشار ابن النديم أن له كتـابا آخر في تاريخ الخلفـاء، ثم أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي (تـوفى سنة 157هـ) ، وقد أورد له صاحب «الفهرست» أكثر من ثلاثين كتابا في أخبار تاريخية، ثم هشام بن محمد السائب الكلبي (توفي سنة 206هـ) ، ومحمد بن عمر الواقدي (توفي سنة 207هـ) [ ص: 155 ] صاحب كتاب «أخبار النبي صلى الله عليه وسلم»، و«طبقات الصحابة»... وغيرهم كثير [5] .

            ويعتقد «فرانز روزنثال» أن تصـنيف المسـلمين للعـلوم لم يبدأ إلا بعد أن تعرف المسـلمون على الكتـابات الإغـريقية وفي فترة نقل العلوم الإغـريقية، وإلى ذلك الوقت، كما يظن، لم يعترف بالتاريخ باعتباره علما مستقلا [6] .

            ويشير أيضا إلى بعض الكتب الأسـاسية في التاريخ في مراحل مختلفة ويحاول أن يقدم نقدا بشأنها، من حيث موضـوعاتها وتأثيرها وقيمتها، ومدى قربها أو بعدها من فهم وإدراك التاريخ وتفسيره دون تدوينه وكتابته فحسـب، من ذلك: كتاب ابن فرجون المسمى «جامع العلوم»، وابن فرجون كما يذكر أنه من تلاميذ أبي زيد البلخي، والكتاب كما وصفه في مجمله في الناحية التاريخية يتناول الأزمنة السابقة، التي أكثرها ذكر في القرآن، مثل بدء الخلق وأحوال القرون السـابقة، ثم أخبار مولد النبي صلى الله عليه وسلم ومبعثه ومغازيه وأحواله إلى وفاته، ثم يتحدث عن أعـلام القرن الحادي عشـر، الذين أسهموا في الكتابة التاريخية؛ ويذكر منهم ابن حزم، الذي عالج التاريخ في كتابه الشـامل: «مراتب العلوم»، وقد اتبع فيه أساليب الفقهاء، كما جرى في الحديث عن علوم أخرى نحو اللغة العربية وعلم الكلام.

            [ ص: 156 ] أما منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، فقد أشار إلى موسوعة فخر الدين الرازي: «حدائق الأنوار في حقائق الأسرار»، ويشير فيه إلى أن الرازي اعتبر التاريخ في خدمة الدين، ويعتقد أن الرازي فيلسـوف في المقام الأول، وقد نظر إلى التاريخ من هذه الزاوية، فقد كان الرازي يرى أن التاريخ يعكس العلوم الأخرى.

            وفي سنة 1340 ميلادية ألف محمد بن محمود الآملي موسوعة: «نفائس الفنون في عرائس العلوم»، وقد أطلق على علم التاريخ في مصنفه ذاك علم التواريخ والسير، ويقول: إن هذين علمين مختلفين من المعرفة، أحدهما يبحث في أعمال الأنبياء والحكام والملل، أما الثاني فيبحث في الظروف المحيطة بكل شخصية، ويعتقد أن مرحلة الآملي تعتبر بداية نمو غير منتظر، وهو ظهور التـاريخ علما مسـتقلا، وقد نشأت العناية بهذا الجانب بسبب تأثير العلوم الدينية الإسلامية، التي كانت بصفة عامة صاحبة الفضل في تقدم البحث العلمي الإسلامي..

            ثم مرحلة أخرى ظهرت في القاهرة في الدراسات التاريخية، مثلها مصنفات «الكافيجي» صاحب «المختصر في علم التاريخ» (سنة 867 هـ/1463م) ، و«السخاوي» صاحب «الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ» في مكة (سنة 897 هجرية/1492ميلادية) [7] .

            ويظن شـاكر مصطفى أن هنـاك عوامل متنوعة قد أسـهمت في ظهور هذا العلم، وتشكل الوعي التاريخي لدى المسلمين، وقد ساعدت على التطور الفكري التاريخي لديهم.. وأهم هذه العوامل:

            [ ص: 157 ] - تاريخية الإسلام: إن الإسلام يحمل في ذاته فكرة تاريخية عميقة، حيث إن العقيدة الإسلامية لا تعد عقيدة طارئة أو حادثة في السياق الإنساني، وإنما هي عقيدة عريقة الجذور في التاريخ، فهي: ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ... (الحج:78) ، فالوحدانية فكرة أزلية الوجود متصلة الحلقات، وإن ما حدث وجرى من قبل منذ بدأ الخلق إلى يوم القيامة إنما هو بقدر الله وتحقيقه، قال تعالى: ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله (هود:123) ، وقال: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه (السجدة:5) ، وقال: قد جعل الله لكل شيء قدرا (الطلاق:3). كذلك أعطت العقيدة الإسلامية تصورا تاريخيا واضحا للكون، وربطت بين المبدأ والـمنتهى، وجعلت الحياة الدنيا معبرا وطريقا لحياة آخروية، ثم إن الإنسانية واحدة، والله رب العالمين، والإسلام يخاطب البشر جميعا.. كما مثل ظهور البعثة المحمدية خطا تاريخيا فاصلا في مسيرة الإنسانية.. أيضا قدم القرآن مادة تاريخية مهمة في القصص وغيرها.

            - الحاجات الروحية والثقافية للمسلمين: حيث شعر المسلمون بموقعهم الحضاري من الأمم السابقة، واحتاجوا إلى معرفة وتدوين التاريخ، كما أن الفتوحات وبروز إمبراطورية مترامية الأطراف ألغت الدول التي كانت قائمة لقرون عديدة فيما يسمى بالقرون القديمة، كل ذلك دفع المسلمين والشعوب الأخرى إلى التحليل والتعليل وتقصي الأخبار، أضف إلى ذلك وجود الرغبة العلمية.

            [ ص: 158 ] - الحاجات العملية الحياتية والدينية: هناك حاجات دينية تمثلت في معرفة أسباب النزول ومعرفة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.

            ثم أشار شاكر إلى عوامل فرعية أخرى كثيرة [8] .

            ومما لا شـك فيه أن التـاريخ وفنـون كتـابتـه قد مرت بمراحـل متنـوعة -كما بينا في أكثر من موضع- أسـهم في هذا علماء السـنة والحديث النبوي، ثم بعض علماء الأصول، والفلاسفة، وكتاب الأدب وطبقات الشعراء، ثم أصبح العلم واضحا في نسقه ومنهجه وتصوراته فيما بعد..

            ومن الضـروري التأكيد على أن الحركة التاريخية لم تشـكلها دافعية النظر في العلوم الدينية فحسب، وإنما قامت بعض المؤسسات الحضارية بدفع هذه الحركة والتأكيد عليها واستمراريتها نحو مؤسـسات العلم ومؤسـسات الحكم والـسلطة والخلفاء، ويبدو هذا واضـحا في مواقف متعددة، حيث تصدر حركة المؤرخين بناء على رغبات رجال الدولة.. وفي هذه الناحية يمكننا أن نستدل بشواهد مختلفة ووافرة تأكيدا على ما ذهبنا إليه..

            فلقد شـجع الخلفاء والأمراء تدوين الحوادث التاريخية، وقد كان أسـبقهم في هذا المضمار معاوية بن أبي سـفيان وأبو جعفر المنصور.. وممن عمل على رغبة الخلفاء واستجاب لهم ابن شهاب الزهري، المتوفى في سنة 124 هجرية، ومحمد بن إسحاق، المتوفى في سنة 152 هجرية، وابن الطقطقي، من مؤرخي القرن السـابع الهجري.. ويرى بعض المحدثين أنه ينبغي الشـك في التاريخ الذي يكتب بطلب من أمير أو قائد لعدم خلوه، أو انتفاء الغرض منه [9] .

            [ ص: 159 ] والاتجاه الأخير في رفض أو على الأقل التشـكيك في جهد المؤرخـين بسبب دعم الأمراء والحكام، أمر مبالغ به بعض الشيء - فيما أظن- فمؤسـسة الحكم هي مؤسسة رئاسة يجوز لها أن ترعى المبدعين والكتاب، لا أن تشتري الأقلام وما يكتب، وهي تقوم بدور الدولة اليوم، التي ترعى وتدعم الفكر، سواء أكان حرا أم لا، وقد رأينا كيف أن ابن بطوطة قد أنفذ رحلته، التي ناهزت الثلاثين عاما، ثم قام بتدوينها وتحريرها تحت رعاية مؤسسة الحكم.

            تجدر الإشارة هنا إلى مسألة التاريخ من حيث التدوين -كما ألمعنا- والتاريخ من حيث الفهم والوعي به وتحليله وتفسيره ودراسته على نحو يتوصل إلى غايات الحدث التاريخي وكيفية وقوعها وما يتصل به، أو ما يمكن أن نطلق عليه: «تفسـير التاريخ».. إن المعنى الثاني من الكتابة التاريخية ربما لا يبدو واضـحا إلا في كتابات متأخرة جدا في الواقع الإسلامي، وربما وجدنا إشارات عامة وتلميحات ليست أساسية أو محورية في هذا الجانب عند اطلاعنا على التراث الإسلامي، الذي اختلطت فيه المعرفة الدينية بالعلوم الاجتماعية والإنسانية بمقدار يصعب الفصل فيه بين هذه المعارف أو تصنيفها، كما حدث في عهود لاحقة.

            ومهما يكن من أمر، فإنه يصعب على كل باحث في التاريخ الإسـلامي أو في فلسـفة التاريخ، سـواء أكان ذلك من منظور إسـلامي أو خلافه، تجاوز [ ص: 160 ] أو إهمال البعد القرآني في المسألة التاريخية، وليس هذا البعد يمثل تفسيرا دينيا للتاريخ، كما صوره بعض المسـتشرقين، بقدر ما هو معرفة إنسانية لا يمكن لنا أن ننكر أبعادها الدينية.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية