الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            - ما المراد بهذه الدراسة:

            لا أجرؤ أن أزعم أو أدعي أن هذه دراسة جديدة بهذا المعنى، أو هي نقدية - وإن كانت كذلك- تتبنى مقاربة أو نظرية مختلفة مقارنة، فأنا لم أقم بين تضاعيف وثنايا الورقات التالية بمحاولة إجراء أو إيجاد رؤية خاصة تتبع تصورا أو منهجا بعينه للوصول إلى حقيقة ثابتة، دون المنهج العلمي المتبع في [ ص: 11 ] دراسة العلوم الاجتماعية، خاصة علم التاريخ وفلسفته، هذا فضلا عن القول بأنني أمتلك نظرية خاصة جديدة على مجتمع المؤرخين في هذه الناحية.

            ولكن يمكن وصف عملي هذا: إنه محاولة لتتبع سير وتطور المشروعات، التي تبنت رؤية «أسلمة العلوم الإنسانية»، وقضت بإحداث تحول في النظر إلى هذه العلوم وإعادة تأملها ضمن روحانية الوحي وقيمه الإلهية، وأخضعت علم التاريخ لهذا التفكير وأساليبه.

            وهي كذلك رصد وتحقيق لقراءة «أسلمة العلوم الاجتماعية» من خلال دراسـة علم التـاريخ وفلسـفته، ضـمن تصـور وقيـاس الفكر التـاريخي بمناهجـه المتعددة.

            وعملي هذا، قبل هذا وذاك، إنما هو سعي في استيعاب وتوضيح العلاقات الكامنة بين منهجية دراسة التاريخ وبين المعرفة والاطلاع على القرآن، وهو إشارات لإدراك النموذج القرآني في الصلة مع علم التاريخ.

            إن تجربة إعادة استعراض وقراءة التاريخ، وكذلك فكر وممارسة التفسير الإسلامي للتاريخ مما هو جدير وحقيق بالنظر فيه، وتدوينه، ومراجعة التفكر حوله، والنظر في رجاله ومراحـله وفـكره ومناهجه ومعطياته، ففي كل ذلك من الوجاهة العلمية والقابلية المعرفية، ما يدرك ويدرس ويناقش.

            وقد تكون بعض الأفـكار مما طرح في الجانب المنهجي العلمي التاريخي مما لم ينضـج بعد، أو قد تـكون في بـعض الأفكار والآراء مما لا يتناسـب حتى مع النهج العلمي الرصين، لكن جملة، أن الربط بين القرآن العظيم والعلوم [ ص: 12 ] الاجتماعية، أمر لا يمكن إغفاله أو تجاوزه، فالقرآن خطاب أساسه مواجهة العقل، واختبار اللب والفؤاد الواعي، لكننا هنا نبحث عن المناهج والمنهجية العلمية، ونبحث عن القواعد المقعدة للعلم والطرائق للدراسة والتحليل والنظر والتفكر والملاحظة، للوصول إلى الحقائق.. ولا يغفل غافل، أو يدرك متبصر، سواء بسواء، أن القرآن الكريم أشار إلى هذه المعاني.

            إن مسار التعامل مع نظريات المتغير الإسلامي للتاريخ ينبغي وبشكل نظري أن تدور حول كليات أساسية، وهي الحقيقة التاريخية، والمسألة الحضارية، وقضية حتمية الصراع في التاريخ الإنساني والوعي التاريخي.

            إن من أبرز مسوغات أسلمة علم التاريخ لدى منظري هذا الطرح ادعاءهم أن المنهج الغربي المادي المتعلق بمعالجة الواقعة التاريخية والمسألة الحضارية منهج علماني يؤمن بضرورة إقصاء العناصر الغيبية من مراجع المعرفة التاريخية ومصادرها ويبني فرضياته على التجربة والعقل.

            وقد أدى غياب البعد الروحي الغيبي في مناهج البحث التاريخي إلى قصور واضح في فهم الجدلية بين (الله) والإنسان والطبيعة، كما يرفض أصحاب التفسير الإسلامي للتاريخ مبدأ الحتميات (الحتمية التاريخية، الحتمية المادية، والحتمية الاقتصادية).. وعليه، فإن الحتمية الوحيدة المعترف بها في هذا المقام هي حتمية القدرة الإلهية.

            كما يرفضون التحقيب الثلاثي الأوربي، الذي يقسم تاريخ العالم العام إلى قديم ووسيط وحديث، بحجة أن هذا التقسيم لا يراعي خصوصيات تواريخ [ ص: 13 ] الشعوب الأخرى، وشاهدهم في ذلك أن هذا التحقيب يضع تاريخ العصر الذهبي للحضارة الإسلامية داخل عباءة العصور الأوربية المظلمة، لذلك نجد بعض الباحثين يرى ضرورة نبذ التقويم الأوربي في صناعة التاريخ، فهذا التقويم في حد زعمهم مرتبط بمركزية الحضارة الأوربية، وقد سيطر على تفكير المؤرخين في الشرق سيطرة مطلقة [1] .

            وفي المقابل، فإن حجج أصحاب التفسير الإسلامي للتاريخ لم تورث قناعات كافية لدى كثير من المؤرخين المحدثين والمعاصرين من أبناء المسـلمين في الإيمان بهذه الأطروحة أو الاعتقاد بجدواها، في إطار استحداث مناهج أصلية قيمية نابعة من الأمة الإسلامية.

            إن نقد فكرة قراءة التاريخ الإنساني والإسلامي معا ضمن رؤية إسلامية منفتحة تسـتند إلى الديـن والقـرآن والسـنة، المصـدرين الكريمين المطهرين، تظل فكرة جوهرية في مجال العمل البحثي الأكاديمي، وكغيرها من الأفكار تحتاج إلى مراجعة ونظر وابتكار وإجداد وإنماء، هي في حاجة أيضا إلى تطوير في المفاهيم والمناهج، ومن الأمانة الكاملة القول: إن الجهد المحدود الذي أبرزه أحمد إبراهيم أبو شوك في إجراء الملاحظات وذكر النواقص والسـقطات وإظهار مكامن القوة والضعف، يعد عملا تقويميا أكاديميا مميزا، وظني أنه يجب أن يجد مزيدا من العناية والتدقيق والمراجعة والاحتفاء.

            [ ص: 14 ] من الممكن هنا الإشارة إلى دراسة قديمة صادرة في الربع الأول من القرن الماضي لطه حسين وهي في غاية الأهمية، نظرا لأن صاحبها كان من أشد المعجبين بالنظريات الغربية الحديثة.

            ومن هذا البـاب، فإن إعـادة قـراءة أطـروحـة طـه حسـين عن فـكر ابن خلدون سنلحظ فيها أنه رفض التسليم بريادة ابن خلدون في الاستواء بنظـرية جديـدة تقعد لقواعـد علم التـاريخ.. وإن كان حسـين قد قـدم نـقدا شـكليا في بعض الأحيان للفكر الخلدوني، فقد عرض لفنه الكتابي وأسـلوبه وبيـانه وأنسـاق قوله وسـوقه المعـاني، حتى إنه بـدا كأنما يسـتهزئ بمن قال إن ابن خلدون صـنع تحولا في مجال العلوم الاجتماعية في عصـره.. وطه حسـين يـؤمن بهذا ولكنـه يـرى -كما أشـرنا بين ثـنايا هـذا العمـل- أن ابن خلدون صنع نظرا عميقا وفكرا يوحي بثورة، فإذا ما خضت معالجة بحره في التاريخ أحسست به ضحلا قليل التفصيل والتحليل والنظر، فلم يعمل نظرياته فيما كتب، أي لم يتبع القول العمل.

            أما عمـاد الديـن خـليل، فهو لا يخـفي إعـجـابه الكـلي بما جـاء بـه ابن خلدون، وإن كان أيضا يقول: إن عمله ليس مبرأ من النقص والعيب، ولكنه يشيد به وبمن أشاد به وعلى رأسهم «أرنولد توينبي»، ومحصلة فكرة خليل، وهي رائدة وطريفة من عالم معروف - بلا شك – إنها تقول بمرجعية الأصلين الكريمين وباستناد ابن خلدون إلى المرجعية الإسلامية بصورة كاملة، وهذا يقوي اتجاهات في القول بقوة مذهب دعاة التفسير الإسلامي للتاريخ.

            [ ص: 15 ] هناك سؤال يرد هنا وهو: أين يمكننا أن نضع من قال بابتعاد ابن خلدون ورفضه للموروث الإسلامي أو التقاليد الإسلامية في صياغة الأخبار، أو أنه ابتعد عن المحافظة والتحوط في دعوته لدبج آثار من مضى في التاريخ، هل هم ممن يقفون في الجانب الآخر، الذي يرفض التفسير الإسلامي للتاريخ ولا يقولون بصحته؟ أم أنهم محايدون؟ وهذا مبحث أخر يحتاج أيضا إلى نظر وشغل.

            وكيف ننظر إلى كتابات عالم آخر هو محمد عابد الجابري عندما كتب عن ابن خلدون وقدم ريادته وتفوقه والتحولات النوعية، التي أصابها في علم التاريخ؟ ولكن الجابري لم يسر على منوال عماد الدين خليل، فهو يرى أن القصص القرآني هي بمثابة مرآة ترى فيها الدعوة الإسلامية نفسها وماضيها وحاضرها ومسـتقبلها، عبر التاريخ المقدس للأنبياء والرسل.. فالقصـص القرآني نوع من ضرب المثل، وليس من أجل القصة في حد ذاتها، ولذلك هي تأتي في كل مرة مناسبة لتطور دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.. وضرب المثل هنا -وفقا لرؤية الجابري- من أجل البيان من أجل العبرة، من أجل البرهنة على صحة القضية، التي يستشهد بها المثل [2] .

            فالشأن في قصص الأنبياء أنها للذكر، أي للموعظة والعبرة، ولذلك القصـص القـرآني في نظره، سـواء تعلق الأمر بالمثل أو بالقصـة لا يلتمس في مطابقة أو عدم مطابقة شـخصيات القصة، والمثل للواقع التاريخي، ولذلك [ ص: 16 ] لا يتم النظر إلى القصة في القرآن تفسيرا بما ورد في الإسرائيليات وغيرها من النصوص اليهودية والمسيحية، فالتفاصيل التاريخية هنا غير مهمة.

            ثم يأتي الجابري إلى النقطة التي نحن بصددها وهي العلاقة بين القصص القرآني والحقيقة التاريخية، فيقرر – كما يرى آخرون أيضا – أن القرآن الكريم ليس كتاب قصص بالمعنى الأدبي الفني المعاصر، وإنما أيضا ليس كتاب تاريخ، بالمعنى العلمي المعاصر للتاريخ، فهو كتاب دعوة دينية، وكما أشار من قبل فالقصـص هي للمثـل واسـتخلاص العـبرة، فلا معنى لطرح مسـألة الحقيقـة التاريخية [3] .

            ويشـير الجابري في هوامش كتابه إلى أن هذه المسألة قد أثارت جدلا قديما في منتصف القرن الماضي، خاصة كتاب محمد خلف الله «الفن القصصي في القرآن الكريم» والذي انتهى إلى أن القصة القرآنية لم يكن هدفها التاريخ بل العظة والعبرة..

            ويرى الجابري أنه لا يختلف كثيرا مع محمد خلف الله حول هذه النتائـج، إلا أن طريقته في الوصـول إليها تختلف عن الطـريق، الذي سـلكه محمد خلف الله [4] .

            [ ص: 17 ] وترى دراسة عفت الشرقاوي أن كتاب محمد خلف الله يقع ضمن الدراسات، التي تعنى بالبعد اللغوي في القرآن الكريم، وأنها في مجملها استنساخ لآراء وأقوال الزمخشري [5] .

            وخلاصة الأمر، أن المراد بهذا العمل هو رصد واستقصاء فكرة ونظرية التفسير الإسلامي للتاريخ -كما أشرنا – مع توضيح جانب من هذه النظرية، مع عرض بعض النظريات الغربية في تحليل التاريخ، ثم تقديم بعض وجهات النظر، التي توقفت عند هذه النظرية وأظهرت بعضا من النقد تجاهها، وهؤلاء على قسمين: قسم يرى جدوى وفاعلية النظرية وإمكانية تحققها وفقا لشروط ومعايير وأسس، فهم مثقفون مقومون ومصححون، وفريق آخر لم يلتمس منافع واضحة لها فهو متحفظ في حقها يرى فيها قصورا أو يراها غير مكتملة.

            ويقف أكاديميون آخـرون موقـفا مناقضـا للموقـفين، فلا يـرى هؤلاء في وقائع القرآن التاريخية إلا قصصا للاعتبار والنظر والمثل، ولذلك ليس ثمة أهمية لتفاصيل تاريخية أو حقائق علمية ترتجى من البحث التاريخي في الواقعة التاريخية في القرآن الكريم. كما توجد طائفة من الذين اشتغلوا بمسألة القرآن وفهم العلوم الاجتماعية قدموا تصورات خاطئة وشائهة، في إرادة منهم لاستهداف التصورات التي أستلهمها المستلهمون من معاني كتاب الله عز وجل ضمن وسائل عديدة.

            [ ص: 18 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية