الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            - عماد الدين خليل في خضم التفسير الإسلامي للتاريخ:

            نشر عماد الدين خليل أطروحته حول التفسير الإسلامي للتاريخ في العام 1975م في بيروت، عن دار العلم للملايين، وقد تعرضنا في الفصـل المدخلي لهذه الدراسة إلى إيجاز لأبرز عناصر المقاربة وما تعمد إليه، ولعل جملة كتاباته ترشح بمعنى وفكرة تحليل التاريخ الإسلامي ومعالجته ضمن خصوصية المكان والزمان.

            كما أن هذه الكتابات تعطي وبإفاضة رؤية ومعالجة تدعو إلى التفكر وإعمال الجهد في النص القرآني، الذي يقدم للمجتمعات الإنسانية نظرة واقعية وعملية في التعامل مع التـاريخ.. وهذا ما ظللنا نشـير إليه في أكثر من موقـع في هذه الدراسة.

            والحق أننا نتفق مع خليل، ومع كل الاجتهادات التي سبقته وتلته فيما بعد، في مقام التعاطي مع النظرة القرآنية في فهم الحضارة والماضي الإنساني، وفي إدراك الزمن، وفي تقديم معاني استشرافية للتدبر.. طبعا نحن نتفق بصورة علمية منهجية، ولا نوافق على تحميل الأمر أكثر مما يحتمل.

            إن فهم التاريخ والمعطى الحضاري، لابد أن يستقيم مع منطق الدين ورؤيته الانفتاحية على العلوم المتنوعة ما دامت لا تعارض أصلا عقديا في ديننا الحنيف.

            [ ص: 194 ] إن أية محاولات انحصارية تريد أن تسمي علما لكتابة تاريخ الأمم والشعوب دون استصحاب للمرجعيات العلمية المختلفة المتسقة مع فلسفة المسلمين الإيمانيـة، دون غلو أو تشـدد في رفـض كل ما قدمتـه المجتمعات الإنسـانية من منهجيات، والعكوف على ما لدينا فحسب، ربما أعتبر ذلك من قبيل الكتابة من منطلقات دينية أو ما يشبه هذا المعنى، وهو بكل تأكيد لا يصتف مع التصورات الإسـلامية السـديدة والتي تدعو للاسـتفادة من كل رافد علمي نافع متسق مع الروح الإسلامية.

            بصفة عامة، لقد أراد عماد الدين خليل، فيما أظن، من خلال فلسفته حول التفسـير الإسـلامي للتاريخ، أن يعالج تصـورا مهما في الفهم التاريخي، وأن يملأ ناحية أساسية في الكتابة التاريخية، وهي كتابة التاريخ وفق منهج يصنعه المؤرخ المسلم، يتفق مع تصوراته وفهمه للحياة، ومنطلقاته في التعامل مع الحياة، ودورة العيش ومسـالك التواصـل الإنسـاني، فلا يغفل عن المنطق القـرآني، وهو منطق ربـاني إلهي، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يتجاوز التجربة الفكرية للمعطيات التراثية الحضارية.

            ومن بهاء الخطاب القرآني وكمال معانيه صلاحيته للأزمنة المتعددة، وفاعليته في كل الأمكنة، ولذلك جعله الله متاحا لكل العقول والفهوم والصدور، جاهزا للتلقي، لا يحتاج إلى طبقة من أصحاب الأدمغة تحول بين الناس وبين الأخذ عنه، وفهمه، أو حتى تفسيره.

            ومما يدلك على هذا أن هناك مئات كتب التفسـير، من المؤكد أنها جزء من فهم الرسالة القرآنية، هو كذلك التقدير والثناء على أجيال من علماء الأمة، [ ص: 195 ] الذين أفرغوا وسعهم في إدراك أجزاء من القرآن ومحاولة تفسيرها، وما تزال مصنفاتهم مصدرا للوصول إلى جانب من المعرفة بالقرآن.

            يقف عماد الدين خليل في محاولة تفسيرية للتفسير الإسلامي للتاريخ، حيث يعطينا خلاصة هذا التصور: «... فإن التاريخ يحتل في المنظور الإسلامي مكانته الخطيرة، وهو في كتاب الله وسنة رسوله، عليه الصـلاة والسـلام، لا يمثل -بحال- توجها دراسـيا - أكاديميا- صرفا صوب الماضي لتحقيق السـيطرة على جزئياته وتفاصـيله، وإنما لتوجيه الأنظار إلى مؤشـراته الرئيسة وقوانينه الفعالة.. إلى السنن والنواميس التي يعمل من خلالها.. إلى المصائر التي تنسـاق إليها الوقائع والأحداث» [1] .

            يريد خليل أن يوضح أن الفلسـفة الإسلامية للتاريخ تنهض على أصلين، هما القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي فلسـفة تستوعب البعد الحضاري في النظر إلى التاريخ، كما أنها نظرة ربانية تدعو إلى قراءة الماضي والحاضر والمستقبل.

            ويعتقد خليل أن منهج التفسـير الإسـلامي للتاريخ يمتاز بعدة جوانب، كما أشرنا، أهمها: المرونة وعدم التأزم المذهبي، فالموقف الإسلامي من التاريخ يتصـف بمرونته، وبعده عن التوتر المذهبي وقولبة الوقائـع التاريخيـة وصـبها ضـمن إطار مسـبق، أي أنه ينبغي أن يكون اتجاها لا يقوم على التحيز، فنظرته موضوعية واقعية.

            [ ص: 196 ] إن التفسير الإسلامي للتاريخ - بحسب خليل- يستمد من الرؤية الربانية، التي تعلو على الزمان والمكان، حيث إن التفسير المجرد للتاريخ، إنما يريد الوصول إلى تحليل يربط الماضي بالمستقبل.

            كذلك يظن خليل أن «الواقعية» هي السـمة التالية للمنهج الإسـلامي في تفسير التاريخ، وهذه الواقعية تعني عدم الوقوع في عالم المثالية، الذي صنعته بعض المناهج الوضعية.

            أما الصـفة الثالثة فهي «الناموسـية»، ويقصد بها السنن، ثم الشمولية، وهي النظرة المنفتـحة تجاه القوى الفـاعلة في حركة التـاريخ، سـواء أكانت منظورة أو غير منظورة، عقلية أو وجدانية، مادية أو روحية، طبيعية أو غيبية [2] .

            كتب عماد الدين خليل كتابات متنوعة حول اسـتقصاء الواقعة التاريخية من المصدرين الأولين: القرآن والسنة، وحول فهم الوعي بالتاريخ عبر استنباط أحكام وسنن تاريخية من هذين المصدرين، ورؤيته في مجملها، كما أشرنا من قبل، تنهض وتقوم ضمن هذا التصور.

            وهو كذلك عمل على بيان فساد النظريات الوضعية في فهم التاريخ أو على الأقل قصورها وضعفها أمام فهم الظواهر والمعطيات التاريخية ودراستها.. وبالإضافة إلى كتبه المتنوعة، التي أشرنا إليها في صدر هذا العمل، فلقد كتب مقـالات عديـدة تخـدم فـكرتـه وتـعطي ملامـح مهمة عن تصـوره، وربما، كما أوضحنا، يكون هو أبرز من تحدث في هذا الباب.. ومن بين هذه المقالات [ ص: 197 ] الأخرى التي لم نشر إليها، مقال «القرآن الكريم والخبرة التاريخية» [3] ، حيث يشير خليل في هذا المنحى إلى أن:

            «القرآن الكريم قد منح الخبرة التاريخية مساحة لم يمنحها لأي سياق آخر عني به هذا الكتاب.. ومضى لكي يتحدث عن النبوات والجماعات الماضية، وعن الصراع الدائم بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وقدم شبكة خصبة من قيم نهوض الأمم والجماعات والحضارات، وعوامل تدهورها وسـقوطها، وقص علينا من الوقائـع والأخبـار في معظم سـوره، فيما لا نـكاد نلحظه بهذه الكثافة في سياقات العقيدة، والعبادة، والتشريع، وآداب السـلوك؛ فالتاريخ - إذا أردنا الحق- هو جماع هذه السياقات، كما أنه يعكس قدرتها على التحقق في الواقع، أي مصداقيتها، ومن ثم فإنه ليس ثمة معلم كالتاريخ» [4] .

            فالسرد التاريخي «في المنظور القرآني يستهدف البحث عن العبرة، أي الجوهر والمغزى، وهو خطاب موجه لذوي البصيرة، القادرين على سبر هذا المغزى والإفادة منه في واقع حياتهم والتخطيط لمستقبلهم، وليس لذوي المصالح والتحزبات والأهواء.. وهو أيضا حديث يحمل مصداقيته المنبثقة عن علم الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي وسع كل شيء علما، فهو إذن ليس رجما بالغيب، كما أنه ليس أهواء وظنونا كما هو الحال في الجهد التاريخي الوضعي» [5] .

            [ ص: 198 ] وهناك العديد من المقالات، التي اعتمدنا عليها في تفسير فكرة أسلمة التاريخ وبيان مقاصدها.

            وخليل صاحب تصور واحدي يقوم على إدراك المغزى الحضاري للدين الإسلامي، ويؤمن بمشروع إسلامي ينهض بالأمة، حيث يرى أن هذا المشروع ليس له سبيل من نجاح سوى بتضامن الأمة واتصالها بـ«فكرة الأمة»..

            «فالأمة التي يراد لها التحقق بمقاصد الشريعة والشهادة على الناس والتـاريخ.. وتحويل حيـاتها إلى تعبير أكثر مقـاربة لما يريـده الله ورسـوله.. وهي - بالضرورة - مهمة شمولية تنطوي على بعد حضاري، بل إن المشروع الإسلامي منذ لحظات تأسيسه الأولى زمن رسول الله مشروع حضاري يستهدف الخروج بالناس من الظلمات إلى النور، وابتعاثهم من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده...» [6] .

            ويشـير عماد الدين خليل إلى «أن القرآن الكريم يجيء بمعطياته التاريخية من أجل أن (يحرك) الإنسـان صوب الأهداف التي رسـمها الإسـلام، ويبعده - في الوقت ذاته- فردا أو جماعة، عن المزالق والمنعرجات، التي أودت بمصائر عشرات بل مئات الأمم والجماعات والشعوب».

            من العسير تطبيق منهج النقد عند المحدثين بكل خطواته على جميع الأخبار التاريخية، وإن اشترط العلماء في المؤرخ ما اشترطوه في راوي الحديث من أربعة [ ص: 199 ] أمور: العقل والضبط والإسلام والعدالة؛ لأن الأخبار التاريخية لا تصل في ثبوتها وعدالة رواتها واتصال أسانيدها إلى درجة الأحاديث النبوية إلا فيما يتعلق ببعض المرويات في السيرة والخلافة الراشدة مما تأكدت صحته عن طريق مصنفات السنة، أما أكثرها فمحمول عن الإخباريين بأسانيد منقطعة يكثر فيها المجاهيل والضعفاء والمتروكين.

            ولهذا فرق العلماء بين ما يتشدد فيه من الأخبار وبين ما يتساهل فيه تبعا لطبيعة ما يروى، على أن تطبيق قواعد نقد الحديث في التاريخ أمر نسبي تحدده طبيعة الروايات.

            فإذا كان المروي متعلقا بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بأحد من الصحابة، رضـي الله عنـهم، فإنه يجب التدقيـق في رواتـه والاعتـناء بنقدهم.. ويـلحق بهذا ما إذا كان الأمـر متـعلقا بثلب أحد من العـلماء والأئـمة ممن ثـبتت عدالتـه أو تنقصهم، وتدليس حالهم على الناس؛ لأن كل من ثبتت عدالته لا يقبل جرحه حتى يتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه.

            وكذلك إذا كان الأمر يتعلق بقضية في العقيدة أو موضوع شرعي كتحليل وتحريم، فإنه لابد من التثبت من حال رواته ومعرفة نقلته، ولا يؤخذ من هذا الباب إلا من الثقات الضابطين.

            أما إذا كان الخبر المروي لا يتعلق بشيء من الأحكام الشرعية - وإن كان الواجب التثبت في الكل- فإنه يتساهل فيه قياسا على ما اصطلح عليه علماء الحديث في باب التشدد في أحاديث الأحكام والتساهل في فضائل الأعمال.

            [ ص: 200 ] ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا التساهل لا يعني الرواية عن المعروفين بالكذب وساقطي العدالة؛ لأن ساقط العدالة لا يحمل عنه أصلا، وإنما قصد العلماء بالتساهل إمرار أو قبول رواية من ضعف ضبطه بسبب الغفلة أو كثرة الغلط، أو التغير والاختلاط، ونحو ذلك، أو عدم اتصال السـند كالرواية المرسـلة أو المنقطعة، ووفق هذه القاعدة جوز بعض الفقهاء العمل بالحديـث الضـعيف في فضائل الأعمال والترغيب والترهيب، مع التنبيه على ضعف الحديث.

            وبناء على ذلك، إذا كانت الرواية التـاريخية لا تتعلق بإثـبات أمر شـرعي أو نفيه، سواء كان لذلك صلة بالأشـخاص، كالصـحابة، رضوان الله عليهم، أو الأحكام، كالحـلال والحرام، فإن الأمر عندئذ يختلف، فيقبل في هذا الباب من الروايـات الضـعيفة ما يقبل في سابقه، فيسـتشهد بها؛ لأنها قد تشـترك مع الروايات الصحيحة في أصل الحادثة، وربما يسـتدل بها على بعض التفصيلات ويحاول الجمع بينها وبين الروايات الأخرى، التي هي أوثق سندا.. «يجوز للمؤرخ أن يروي في تاريخه قولا ضـعيفا في باب الترغيب والترهيب والاعتبار مع التنبيه على ضعفه، ولكن لا يجوز له ذلك في ذات الباري عز وجل وفي صفاته ولا في الأحكام، وهكذا جوز رواية الحديث الضعيف على ما ذكر من التفصيل المذكور».

            أما أكرم ضياء العمري فإنه يرى أن «اشتراط الصحة الحديثية في قبول الأخبار التاريخية، التي لا تمس العقيدة والشريعة، ففيه تعسف كثير، والخطر الناجم عنه كبير؛ لأن الروايات التاريخية التي دونها أسلافنا المؤرخون لم تعامل معاملة الأحاديث، بل تم التسـاهل فيها، وإذا رفضـنا منهجهم فإن الحلقات الفـارغة [ ص: 201 ] في تاريخنا ستمثل هوة سحيقة بيننا وبين ماضينا مما يولد الحيرة والضياع والتمزق والانقطاع.. لكن ذلك لا يعني التخلي عن منهج المحدثين في نقد أسانيد الروايات التاريخية، فهي وسيلتنا إلى الترجيح بين الروايات المتعارضة، كما أنها خير معين في قبول أو رفض بعض المتون المضـطربة أو الشـاذة عن الإطار العام لتاريـخ أمتـنا، ولكن الإفـادة منها ينبغي أن تتم بمرونة، آخـذين بعين الاعتبار أن الأحاديث غير الروايات التاريخية، وأن الأولى نالت من العناية ما يمكنها من الصمود أمام قواعد النقد الصارمة».

            التالي السابق


            الخدمات العلمية