الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            - ثالثا: فلسفة التاريخ:

            إن مناهج المؤرخين المسلمين الأوائل مستقاة بصورة أساسية من علم الحديث والفقه – كما أشـرنا – ويبدو هذا جليا في التصـورات، التي قدمها [ ص: 32 ] ابن جرير الطبري (ت 301هـ - 328م) عن التاريخ.. فهو يقوي أثر السند والرواة في صـحة المتن التاريخي.. وبين أنه دلل على صـحة الأخبار التي نقلها ما اتخذه في كتابه من صحيح الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة وغيرهم من علماء الأمة، ويدعو من يقرأ تاريخه أن يعذره إن نقل بعضا مما يستنكر أو لا يتقبل، يقول الطبري:

            «وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه، دون ما أدرك بحجج العقول، واسـتنبط بفـكر النفوس، إلا اليسـير القليـل منه، إذ كان العلم بما كان من أخبـار الماضـين، وما هو كائن من أنباء الحادثـين، غير واصـل إلى ما لم يشـاهدهم ولم يدرك زمانهم، إلا بإخبـار المخـبرين ونقل النـاقلين دون الاستخراج بالعقول، والاسـتنباط بفكر النفوس، فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصـحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبـلنا، وأنا إنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا» [1] .

            [ ص: 33 ] فهو هنا يطلع القارئ على منهجه في الكتابة التاريخية، الذي تتكشف منه عدة جوانب أبـرزها اتباع منـهج المحـدثين في الأخذ بصـحة الروايات، وقد بين أنه لا يقبل بعض الروايات وينبذها إذا تبين له ما فيها من ضعف ووهن في النقل [2] .

            ونطالع ارتباط التاريخ بعلم الحديث النبوي في القرون الإسلامية الأولى ضمن عدة مصـنفات أخرى، نضرب على ذلك مثلا بكتاب أبو يوسـف ابن سفيان الفسوي، المتوفي في سنة 277 هجرية، وعنوان المؤلف «المعرفة والتاريخ»، وقد قال فيه: «رويت عن ألف شيخ كلهم ثقات»، وهو في الأصل من علماء الحديث، الذي كرس نفسه وجهده لسماعه، فانتقل وارتحل إلى مصر والشام والحجاز لسماع الكتب المشهورة [3] .

            كان المؤرخون الأول من المسلمين يعتمدون على الروايات الشفهية، شأنهم في ذلك شأن رواة الحديث، فكان كل جيل يستمد أخباره من الجيل الذي سبق، وكان الخبر التاريخي يؤخذ من السماع عن الحفاظ، فيما يعرف بالأسانيد، وهي ذات الوسيلة التي اتخذها المحدثون في روايتهم للأحاديث، [ ص: 34 ] فكان الخبر التاريخي قائم على الرواة، ويسمى ذلك السند أو الإسناد ثم نص الخبر وهو المتن.. وأقدم كتب التاريخ التي تجمع بين الحديث والتاريخ هي كتب المغازي والسير [4] .

            ويبدو أن الأسـاليب التي رسـمها الطبري في تدوين التـاريخ وكتابته قد انسحبت على اللاحقين من بعده في العهود التالية، نجد ذلك في الكامل لابن الأثير (ت 635 هـ) ، والبداية والنهاية لابن كثير (ت 774هـ) ، وربما امتد هذا إلى فترة متقـدمـة لدى مـؤرخين آخرين مثـل السـخاوي والكافيـجي في القرن التاسع [5] .

            ومن الواضح أن ابن خلدون يمثل مسارا قائما بصفة مستقلة في مسار الفكر الإنساني والفكر الإسلامي على حد سواه، وسنفرد عنوانا خاصا لملاحظـة ما انتهى إليه في مسـألة المعرفة التـاريخية، ولكن نريد أن نشـير هنا إلى الرؤيـة الجديدة، التي قـدمها في المعرفة العلمية في صـناعة التـاريخ، حيث استعرض تصورا مركبا لفكرة التاريخ، فقال: إن التاريخ ليس تسجيلا [ ص: 35 ] للأحداث والوقائع الكبرى وتداعياتها فهذا ظاهر التاريخ، ولكن للتاريخ معان ودلالات باطنية أعمق، سماها باطن التاريخ

            [6] .

            وباطن التاريخ عند ابن خلدون يقصد به العلاقات السببية بين الأحداث والوقائع التي ترقى إلى مرتبة القوانين والسنن، التي تحكم مسيرة الحضارة، وقيام المجتمعات والدول وأسـباب قيامها وتكوينها، ثم أسـباب تطورها وازدهارها، ثم أسباب أفولها وانهيارها الأخير وزوالها.

            إذن فالتاريخ الظاهر هو تتبع الأحداث في عقود وحقب وقرون وعصـور، وباطن التاريخ هو نظر وتحقيق وتعليل، وعلم عميق بكيفيات الوقائع وأسبابها، وهكذا أصبح التاريخ فلسفة، يهتم بدراسة العلل التي تقف من وراء الأحداث [7] .

            وفلسفة التاريخ لا تعوض قصور التاريخ فحسب بل إنها تعوض قصور الفلسـفة أيضا، حيث تعاني الفلسـفة من قلق دائم مصدره سـعي الفيلسـوف إلى الوصـول إلى الحقيقة في إطار بحثه الدؤوب عنها، ولكنه [ ص: 36 ] يخشى أن يضل السـبيل وهو يحلق في عالم المجردات، فهو ربما يجد في حقائـق التـاريخ ما يربطه بالواقع [8] .

            إن أول اسـتخدام للفظة «فلسـفة التاريخ» ورد عند «فولتير»، وإن كان لا يعني ذلك أنها قد ابتدأت به، وإنما ترجع إلى ابن خلدون، وقد قصد «فولتير» من استعماله لذلك المصطلح دراسة التاريخ من وجهة نظر الفيلسوف، أي دراسة منطقية ناقدة ترفض الخرافة وتنقح التاريخ من أضداد العلم، وذلك يرجح اسـتخدام مبدأ الشـك.. و«فولتير» يظن أنه من المنكر أن تصبح دراسة التاريخ أكواما لا متناهية من المعارك الحربية أو المعاهدات السياسية دون فهم ضابط أو حكمة بادية [9] .

            فمصطلح «فلسفة التاريخ» لا يجاوز ظهوره القرن الثامن عشر الميلادي، وإن كانت مباحث «فلسفة التاريخ» ربما ترجع حتى أبعد من ابن خلدون، وتبدو في هذه المسيرة عدة أسماء اشتركت في مناقشة قضايا فلسفة التاريخ، قديما وحديثا، مثل القديس «أوغسطين» و«ميكافيلي» و«جون لوك» ومتأخرا أيضا «هيغل» و«ماركس» و«شبنجلر» وغيرهم [10] .

            [ ص: 37 ] صحيح أن التاريخ ليس علما بالواقع، بل معرفة بخبر عن الواقع، أي أنه إخبار عن أحداث الماضي وذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل، كما في تعبير ابن خلدون، إلا أن هذا أيضا قد أثار تساؤلات حول ماهية التاريخ ووصفه بصفة العلم أو نفيها عنه، فقد قال بعض العلماء:

            إن التاريخ لا يمكن أن يكون علما؛ لأنه يعجز أن يخضع الأحداث التاريخية إلى الاختبار والتجربة، وبالتالي لا يمكن استخلاص قوانين ثابتة للتاريخ على نحو ما هو موجود بالنسـبة للعلوم التجريبية، ورأى بعض رجـال الأدب في التاريخ فنا من الفنون، وقال آخرون: إن التاريخ ليس علم تجربة واختبار ولكنه علم نقد وتحقيق [11] .

            إن الوصول إلى «فلسفة التاريخ» تدعو صاحبها إلى قراءة التفسـيرات في كل عصر يختلف عن العصر المراد البحث فيه، بقدر من التأني والدقة واستصحاب العلوم الأخرى للوصول إلى نتائج موضوعية، فمحلل الحدث التاريخي يقوم بمقارنة الظواهر الاجتماعية والاقتصـادية والسـياسية واللغوية، ولا ينبغي عليه الاعتماد على صور خيالية، كما أن المصـطلحات اللغوية، التي يستدل بها في معرفة التاريخ وفلسفته متجددة، ولذلك تصبح اللغة عاملا جوهريا في التواصل مع فلسفة التاريخ [12] .

            ويمكن النظر إلى «فلسفة التاريخ» بمنظورين:

            [ ص: 38 ] أولهما يجعل «فلسـفة التـاريـخ» دراسـة لمناهج البـحث، أي للطرق التي يمكن أن يكتب بها، وكيفية التحقق من صحة الوقائع التاريخية، والكشف عن مدى صدق الوقائع، ومناقشة فكرة الموضوعية في التاريخ، وهذا يعني فحصا دقيقا لمنهج المؤرخ.

            أما المنظور الثاني فيكون تركيبيا، بحيث إن الفيلسوف لا يدرس مناهج البـحث في التاريخ، وإنما يقـدم وجهة نظر عن مسـار التـاريخ ككل.. وهناك مسألة العلية، التي هي ركن أساس في «فلسفة التاريخ»، أي الكشف عن العلل المسببة للأحداث، ولذلك دائما ما يبرز سؤالان يقودان قلم المؤرخ وهما: كيف حدث؟ أي الوصف، ولماذا حدث؟ (التفسير والتعليل) [13] .

            ويقرر أحمد أبو شوك أن المؤرخين طوائف شتى، فمنهم جماعة يهتمون بالكتابة عن البحث التاريخي، الذي يساعد في اختيار موضوع البحث وجمع الأصول والمصادر، ثم ترتيب المادة التاريخية ونقدها وتبويبها وعرضها، وجماعة أخرى أولت عنايتها بفلسفة التاريخ، التي ينصب جهدها على دراسات المسائل الكلية في حركة التاريخ ومعالجة نظريات وقوانين وأصول الحادثات التاريخية، أما السواد الأعظم من المؤرخين فيهتم بدراسة الأحداث التاريخية وتدوين وقائع التاريخ.

            [ ص: 39 ] وهذا التنوع قد أورث البحث التاريخي، اطرادا ونموذجا متجددا بتجدد المصادر التاريخية نفسها، ونتيجة لذلك ظهرت عدد من المدارس التاريخية ذات التوجهات المتنوعة – وبعضها أيديولوجي – حاولت هذه المدارس تقديم نظريات مفسرة لأحداث الماضي البشري [14] .

            - ابن خلدون وفلسفة التاريخ:

            أشار عماد الدين خليل إلى وفرة الدراسات والأبحاث، التي كتبت عن ابن خلدون طيلة قرنين من الزمان، ولم يقتصر هذا الأمر على العالم الإسلامي فحسب فلقد احتفى الغربيون كذلك بما كتبه ابن خلدون، عناية وترجمة وتأثرا باتجاهاته في التفكير.

            وكتب عماد الدين خليل دراسة عن ابن خلدون من ناحية إسلامية تلبية لفراغ قائم في مكتبة الدراسـات الخاصـة بابن خلدون، حيث -كما يعتقد - لم تنل المسـألة الدينية أي اهتمام يذكر [15] .

            بنى عماد الدين خليل رؤيته وتصوره في هذا الكتاب للرد على مقولات: إن ابن خلدون لم يكن متأثرا بالدين في آرائه العلمية، أو إنه قد تحرر من التقاليد الإسلامية في درس شؤون الدولة والإدارة وغيرهما.

            [ ص: 40 ] ويرى خليل أن من يقرأ ابن خلدون على عجل هو من يتصور أن تناول ابن خلدون للدين مسألة عرفية.. وإيمان عماد الدين خليل يناقض هذا التصور كلية، فهو يعتقد أن أطروحات ابن خلدون عن الدين لهي جزء أساس من رؤيته الشاملة لحركة التاريخ..

            ويصف بنية التصور والفكر عند ابن خلدون بأنها بنية تركيبية، فهو يرفض التفسير الواحدي للتاريخ، كما تفعل المذاهب الوضعية في تفسير التاريخ.. والرجل يمتلك الرؤية الشمولية للتاريخ، كما أسماها.

            ويقرر خليل أنه ليس كل ما ذهب إليه ابن خلدون كان صوابا مطلقا، حتى على المسـتوى الديني.. ويرى أنه من الضـلال إنزال ابن خلدون منزلة أكبر من منزلته [16] .

            ويرى طه حسين أن ابن خلدون ليس ذا أسلوب كتابي خاص به، فأسلوبه كمعاصريه مضمحل جدا، تكثر فيه العبارات المسجعة، والاستعارات والمقاربات، التي يكثر فيها التكلف والأغلاط في استعمال الكلمات، والخلط بين صحيح الألفاظ وعاميها، وغير ذلك.

            ويظن طه حسين كذلك أن ابن خلدون قد أفلح في التعبير عن مذهب فلسفي كامل ولكنه لم يسـتطع أن يسبغ على فلسفته لغة خاصة به، فتجد في مؤلفه لغة الفقهاء والنحويين وعلماء المنطق[17] .

            [ ص: 41 ] ونوضـح في أحد الفصـول التالية كيف أن الهجمة على ابن خلدون قد تصدى لها بعض دعاة التفسير الإسلامي للتاريخ، وقد حاولوا أن يثبتوا كيف أن منطلقات ابن خلدون في مجملها كانت منطلقات إسـلامية، وإن أقر بعضهم ببعض ما وقع فيه ابن خلدون من أخطاء.

            وجد ابن خلدون في القصص التاريخية وقائع تناقض القوانين والسنن الحتمية لديه فرفضها، وعدها أغلاطا ارتكبها الكتاب، وبدت له عندئذ ضرورة إجراء تغيير كبير في طريقة درس التاريخ وكتابته [18] .

            قال ابن خلدون: «وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل، غثا أو سمينا، ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط» [19] .

            [ ص: 42 ] لقد جعل ابن خلدون عناصر التوهم والوقوع في الخطأ ترجع إلى عوامل ثلاثة هي:

            عدم التزام الموضوعية، ومرد ذلك إلى أمور أهمها: التشيعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك التشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص، فتقع في الكذب ونقله..ومنها أيضا تقرب الناس لأصحاب المراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال.. ومنها المبالغات، خصوصا عند ذكر الأعداد.

            والعامل الثاني: عدم مراعاة قوانين الطبيعة، كأن ينقل المؤرخ أو الراوي أخبارا عن حوادث مستحيلة الوقوع لا تسمح قوانين الطبيعة بوقوعها.

            والعامل الثالث هو الجهل بطبائع العمران، أي عدم معرفة الظواهر الاجتماعية وطبيعتها وكيفية حدوثها، فالعمران البشري والاجتماع الإنساني له خصـائصه المميزة له، ومن هذه الخصـائص مثلا سـنة التطور، فيراعي المؤرخ تغير العادات والأخلاق والمعاني والمفاهيم عند نقده للأخبار، فلا يقيس على ما يراه أو شهده أو عرفه في شأن تاريخي [20] .

            يقر طه حسـين بطرافة ابن خلدون في الوجهة التـاريخية، فهو أول مؤرخ - نسبيا - نظر إلى التاريخ، حيث هو كل لا يتجزأ، وتخيل طريقة لتمحيص [ ص: 43 ] الوقائع التي تكونه، وابتدع علما إضافيا يساعد على فهمه، وتأمل الوقائع التاريخية - في نظر طه حسين - عند المؤرخين المسلمين، ونقد هذه الوقائع قليلة جدا.. ولكن طه حسين يعتقد، كذلك، أن ابن خلدون من الناحية العملية لم يحقق الغاية العلمية التي نسبت إليه، فكتابته للتاريخ بسيطة ليس فيها تحقيق، ففي كتاب التاريخ لابن خلدون يبدو لنا ابن خلدون ذلك الراوية البسيط، الذي يقص كل شيء دون تمحيص، فالنظر إلى ما ذكره في المقدمة كان من المتوقع أنه سيحدث ثورة – بحسب ما يقول طه حسين – في الكتابة التاريخية ولكن ذلك لم يقع، بل ربما ابن خلدون، في ظن طه حسين، لم يزد في طرائق تدوينه للمباحث التاريخية على ما جاء به المسعودي، الذي عاش قبله بأربعة قرون [21] .

            وملاحظة طـه حسـين قال بها المسـتشرقون من قبل، فقد أخذ على ابن خلدون المؤرخ أنه في بعض مواطن من كتـابه «العبر» لم يسر وفق المنـهج، الذي رسـمه للمؤرخين في مقدمته، ولم يستخدم الطريق الذي نصح لهم باسـتخدامها لتمييز صحيح الأخبار من كاذبها، بل نقل روايـات ضعيفة لا تثبت وليس لها سند موثوق به، ولذلك اتجه المؤرخ الإنجليزي «روبورت فلينت» إلى القول: إن ابن خلدون بوصفه واضع نظريات فإنه منقطع النظير في كل زمان ومكان، أما بوصفه مؤرخا فإن كثيرين يتفوقون عليه [22] .

            [ ص: 44 ] إن أبرز ما وضعه ابن خلدون أنه أدرك أن هناك ظواهر ضرورية - عامة تنشأ عنها قوانين يجب على المؤرخ الإلمام بها إذا ما أراد كتابة التاريخ، أهم هذه القوانين هي:

            أولا: «قانون العلية» (ربط السبب بالمسبب) وهناك بعض استثناءات لذلك القانون هي التأثير الخارق للعادة، الذي ينسبه ابن خلدون إلى الله سبحانه وإلى الروح..

            ثم «قانون التشابه»، فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء، فالمجتمعات البشرية كلها تتشابه، من بعض الوجوه، والتاريخ قصيدة لا يتغير رويها.. وذكر ابن خلدون أحد أسباب التشابه الاجتماعي وهو التقليد، وهو ثلاثة أنواع تقليد الرعية للحاكم، تقليد الغالب للمغلوب، وهذا يكون في الملوك فيأخذوا ممن سبقهم، وتقليد المغلوب للغالب، وثالثا قانون التباين [23] .

            وكما أشـرنا، فإن طه حسـين قد رأى وشـرح لنا كيف أن ابن خلدون لم يلتـزم في كتـابته التـاريخية بما وضـعه نظريـا، لكن وجيـه كوثـراني يقدم لنا تحليلا أكثر تقدما من الذي وصـفه طه حسين، حينما يحاول أن يشـرح لنا كيف أن ابن خـلدون يعبر عن بيئـته العلمية ويمضي على طريقها في الكتابة، وإن كان قد تجاوزها في فكره وروحه العلمية التنظيرية..

            [ ص: 45 ] وكوثراني أيضا يقدم لنا استنتاجا مهما حول بقاء المدرسة الخلدونية واستمرارها، حيث يشير إلى أن المؤرخين العرب، الذين جاءوا بعد ابن خلدون، استمرت بهم السبل في الكتابة بأسلوب السرد والرواية، وفي ربط التاريخ بعلوم الحديث، غير أن هذا ربما لا ينسـحب بصورة جزئية على كتب الخطط والمدن والبلدان وأدب الرحـلات والجـغرافيا، التي ازدهرت بعد قرن ابن خلدون، فهي في توجهها من حيث الموضـوع وطبيعة المنهج تكاد تكون أكثر قربا إلى التوجه الخلدوني [24] .

            وعلى الرغم من الأثـر المحدود، الذي عـبرت عنه المدرسـة الخلدونيـة في الكتابة التاريخية، من نواحي عملية، مقارنة بالتغيير الجذري، الذي أحدثته على مسـتوى الفكر التاريخي، فإن عبد الحليم عويس يظن أنه من الملائـم جـدا أن نعتـبر أن الكتـابة التاريخيـة قبل ابن خـلدون هي عصـر ما قبـل الخلدونيـة، ثم إن الكتابة التاريخية بعد ابن خلدون هي الكتابة في عصر ابن خلدون [25] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية