الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            1- الجانب الإيماني والعقدي.. وأثره في تشكيل العقل الناقد لدى المؤرخين المسلمين:

            إن المؤثرات الإيمانية مما يدرك بداهة عند النظر في نتاج المسـلمين العلمي، في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، بل قل إنه ربما كان الدافع الأول في مجرى تأسيس بعض العلوم وصياغتها، وليس هذا مستغربا، فالدين سـيبقى ضمن أبرز المؤثرات على عقل الإنسـان وفعله وعطائه إلى أبد الدهر، لذلك فإننا نلحظ أن الحيطة والأخذ بما هو أسلم وتجنب الدخول في إشكالات إيمانية عند التعامل مع التاريخ الإسلامي بقيت تؤطر رؤية بعض المصنفين والكتاب من المسلمين، خاصة فيما قبل فترة الحداثة وما بعد الحداثة، حينما استقرت اتجاهات بعض كتابات المسلمين على استخدام المناهج الغربية الوضعية في مجال العلوم الاجتماعيـة والإنسـانية، بل قد اتجه بعضهم في العصـر الراهن إلى التشـكيك [ ص: 205 ] في أن موضـوعات العلوم الشرعية قد تمتلك منهجا في أسـاسها قد يجعلها تقف ضمن دوائر العلوم الاجتماعية والإنسانية القائمة اليوم.

            ولعلنا نستطيع التدليل على ما ذهبنا إليه من رأي حول اتجاه كثير ممن أثبتوا وقائع تاريخية في تاريخ المسلمين إنما حاولوا أن يكونوا أكثر حذرا وحيطة عند وصفهم لحوادث بعينها في التاريخ الإسلامي، وذلك من خلال الإشارة إلى كتاب «العواصم من القواصم» للقاضي أبي بكر بن العربي المالكي (468-543ه).. والكتـاب في جملته رصـد لأبـرز الوقائـع منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الفترة الحرجة التي أعقبتها أحداث كبرى في التاريخ الإسـلامي بصـفة عامة وفي تاريخ صدر الإسلام على جهة الخصوص، حيث تلى ذلك قيام دولة المسلمين وتوسعها وظهور المعارضة الداخلية والخروج بقوة السلاح، وظهور وقيام الأحزاب السياسية وتفرق المسـلمين طوائـف وفرقا وجماعات، وغير ذلك من الأحـداث الكبرى، التي أوجدت تاريخ المسلمين السياسي والاجتماعي والفكري والاقتصادي.

            والملاحـظ في «العواصـم من القواصـم» أن صـاحبه قـد أراد بـه الرد على ما أطلق عليـه «القواصـم» وهي في منظـوره أكاذيـب وأباطيـل لم ترد في ذلك التاريخ، وإن كان قد استخدم أسلوبا عقليا بحسب منهجه في رد تلك المزاعم وتفنيدها، عن طريق تكذيب رواة هذه الأحداث وتضعيف سندهم، وهو منهج المحدثين.

            على أية حال، ليس مرادنـا هنا هو الدفاع عن الكتـاب أو رد ما به بقدر ما أردنا أن نمثله شـاهدا قويا على فـكرة الاحتياط عند تناول تاريـخ مثل تاريـخ أصـحاب النبي صلى الله عليه وسـلم وهي فـكرة رافضـة للتشـكيك [ ص: 206 ] في تلك الفـترة، وربما كان الغرض منه كذلك هو الرد على خصـوم أهل السـنة من الذين رفضوا إمامة الشيخين واستخدموا ذات الوقائع، التي ردها وفندها صاحب كتاب «العواصم» [1] .

            إن الدفاع عن إمامة المسلمين في عمومها هي فكرة سياسية استمدت تأسيسها من الدين الحنيف، ويبدو أنها ترسخت بعمق لدى بعض المذاهب الإسلامية دون أخرى بصورة أكبر حتى احتسبت لديهم أصلا من أصول الدين.. أيضا تأثر بها بعض علماء السنة نتيجة لعوامل سياسية، لكن هل المبعث السياسي، الذي قد يظلل الكتابة التاريخية، يمكن احتسابه ضمن الكتابة الراشدة المبرأة من الانحياز والانجرار وراء التبعية السـياسية؟ وهل بناء الفكر الإسـلامي يقوم بالنظر إلى تاريخ المسلمين أم بالنظر إلى الإسلام؟ وفي الحقيقة إن الإجابة عن السؤال الأول مما يمكن تـناوله ومعالجـة بعض جوانبـه، أما فيما يتعلق بالسـؤال الثـاني فربما أبعدنا هذا عن الفكرة التي نحن بصددها إلى حد ما.

            ومن ناحية أخرى، يدافع عماد الدين خليل عن أبي بكر ابن العربي القاضي الأندلسي، ويرى أنه وابن خلدون قاما بمحاولات جادة في تقديم بعض اللمحات عن المنهج التاريخي، وكان عملهما محاولة اختبارية لتنفيذ قيم المنهج النقدي في البحث التاريخي.. وقد أبدى إعجابه بمذهب ابن العربي في رفض كثير [ ص: 207 ] من روايات التاريخ التي تقدح في بعض الأعمال من الصحابة، رضوان الله عليهم، في عصر صدر الإسلام، ويرى خليل أن ابن العربي قد اعتمد منهجا نقديا صارما في دراسة عصر الراشدين ومطلع العصر الأموي [2] .

            وبكل تأكيد لا تثريب هنا حول مبدأ احترام الصحابة وتوقيرهم، فهم الجيل الأول من المسـلمين، الـذي حمل لـواء الإسـلام ودافـع عنه، وأسـهم في إيجاد هذا الصرح الباذخ الذي يفاخر به المسلمون اليوم في تاريخ الأمة وتراثها الأخلاقي والفكري والعلمي، وهم من وضع لبنة ذلك، وهم من حفظ الدين ونقله إلى الجيل التالي، لكن من الضروري كذلك عدم الإفراط في تقديس الأشخاص وتبرئتهم من كل منقصة، ومجتمع الصحابة الكرام هو مجتمع بشري تصـيبه عوارض المجتـمعات البشـرية، ومن المهم نقد روايات التـاريخ جميعها، فإن كان سندها متواترا فيجب حينئذ تفسيره والعمل بمقتضاه واستيعابه على هذا النحو، أما بالنسبة لروايات الآحاد فربما كان الأمر فيها مختلفا بعض الشيء.

            لذلك نجـد أن بعض المهتمين بالمسـألة قد ادعى أن العقل المسـلم التـاريخي لا يكاد يخرج من سـلفيته الضـيقة، ومدارسـه الموروثة المقيدة، وكل ذلك إنما هو عقبة كؤود، أساسه التفسير السياسي لحركة التاريخ الإسلامي [3] .

            [ ص: 208 ] ونحن بكل حال لا يمكننا تجاوز المؤثرات المشار إليها فيما سبق من قول، وأهمها العامل السياسي في صياغة التاريخ الإسلامي، ثم مؤثرات العلوم الشرعية المختلفة، وقد اختـلط كل ذلك مع ما كتـبه المسـلمون في تحرير وقـائع تـاريخهم بما لا يمكن إغـفاله أو إهمـاله. وكذلك لا يمكننا وصـف كل تراث السـلف بأنه عقبات في درب المسـلمين اليوم، فإن هذا أيضا من التضييق الذي لا طائـل منه، فإذا اقتضـى العقل انفتاحـا فالأصل أن ينفتح على تراث الأمة من عند السلف أولا وليس بالضرورة - بحسب ما أظن - الأخذ به جملة واحدة.

            1-1 الرجوع إلى الأصول في وصف «أبستمولوجيا المعرفة».. مسلك قديم لدى علماء الأمة:

            وفيما يتصل بالإيمان والاعتقاد ضمن أحد الدوافع المحركة لربط الإسلام بواقع المعرفة العلمية الكلية نلاحظ أن أحد الباحثين قد أدرك أن هذا الحراك قديم في نزوع علماء الأمة الإسلامية إلى تجديد مآثرها المعرفية استمدادا من القرآن وعملا به، ولما شهدوا تراجعا في هذه القيمة نهضوا بها، وشمروا سواعد جدهم لنفض غبار السكتة والغيبة عن منافع القرآن ومعانيه في العلم.

            وقد ألمع أبو بكر إبراهيم إلى ما أشار إليه أبو حامد الغزالي، الذي حركته دوافعه الإيمانية إلى تحرير مصنفه «إحياء علوم الدين»، وقد انطبق هذا على الفيلسوف ابن رشد، ضمن الحركة التي أطلق عليها إبراهيم المحاولات المبكرة [ ص: 209 ] لإصلاح العلوم الإسلامية، وقد أسست هذه المحاولات في نظره لضرورة الوعي بالقواعد والأصول الإسلامية في المجال المعرفي، كذلك إيجاد رؤية عقلانية للتواصل بين العلوم النقلية والعلوم العقلية، بحيث لا تعارض مقاصد الدين [4] .

            كذلك يعتقد عماد الدين خليل أن معرفة النواميس والسنن تحقق الوفاق بين الجماعة المسـلمة وبين هذه النواميس، وذلك في إطار دائرة الإيمان، فالمعرفة أو النشاط المعرفي، أيا كان، يمكن أن يعاد تركيبه وفقا للمنظور الإيماني، وأن الدين الذي يبتدر كلماته بكلمة اقرأ لا يمكن أن يكون إلا دينا معرفيا، وليست ثمة تناقض أو تضاد بين المعرفة والإيمان [5] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية