الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            - الرواية التاريخية وابن خلدون:

            اتجه بعض مؤرخي التاريخ الإسلامي إلى وضع قواعد لقبول الرواية التاريخية فيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي، منها:

            [ ص: 171 ] اعتماد المصادر الشرعية وتقديمها على كل مصدر؛ الفهم الصحيح للإيمان، ودوره في تفسير الأحداث؛ أثر العقيدة في دوافع السلوك لدى المسلمين؛ العوامل المؤثرة في حركة التاريخ؛ العلم بمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم والتثبت فيما يقال عنهم؛ الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل وإنصاف؛ العبرة بكثرة الفضائل؛ إحالة الحوادث على الخطأ في الاجتهاد؛ الطريقة المثلى في معالجة القضايا والأخطاء؛ الاستعانة بعلم الجرح والتعديل للترجيح بين الروايات المتعارضة وبناء الصورة التاريخية الصـحيحة؛ الرجوع إلى كتب السـنة كمصدر مهم لأخبار صدر الإسلام؛ معرفة حدود الأخذ من كتب أصحاب الأهواء والفرق؛ معرفة ضوابط الأخذ من كتب غير المسلمين؛ مراعاة ظروف العصر الذي وقعت فيه الحادثة... وغير ذلك.

            ومعروف أن هذه ضوابط معاصرة أقامها مؤرخون معاصرون دعوة للتحقق من التاريخ الإسلامي، وليس هذا بجديد كما نعلم، وقد سبق في ذلك الضوابط القديمة التي خطها ابن خلدون، حيث يقول:

            «لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم بها أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق.. وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايـات والوقائـع، لاعتمـادهم فيها على مجرد النقل، غثـا أو سـمينا، ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن [ ص: 172 ] الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط، سيما في إحصاء الأعداد في الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات، إذ هي مظنة الكذب ومطية الهذر».

            يعلق زكريا بشير إمام على هذا النص، ويسـتخلص منه ما يلي:

            «إذن فابن خلدون حذر وواع تماما بالأسـباب، التي تؤدي إلى عدم الدقة في نقل الأخبار، ومنها:

            1- الغلط في تقدير أعداد الجيوش أو أموال الحكام والسلاطين.

            2- الانبهار والثقة المطلقة بالأسماء المشهورة من كبار الرواة والناقلين والمؤرخين، من أمثال المسعودي، والطبري، وابن عساكر.

            3- ضعف ملكات النقد وقواعد النظر والاستدلال، والغفلة عن قواعد القياس المنطقي، وعدم التثبت، وقلة البحث والتأمل والتدبر والروية.

            4- التشيع للآراء والأفكار، والتحيز للأفكار والأشخاص، فالناس يتبعون من يحبون في آرائهم، وكذلك هم يتبعون سادتهم وكبارهم فيضلوهم السبيل.

            5- الذهول عن طبيعة العمران، والغفلة عن طبائع الأشياء وأحوال الممالك، وعوائد الناس وحقائق الزمان والمكان.

            6- كذلك الذهول عن قواعد السياسة، وطبائع الموجودات، واختلاف الأمم في البقاع والأمصار، في السير والأخلاق والعادات، والنحل والمذاهب، وسائر الأحوال.

            7- عدم الإلمام والإحاطة بالأخبار، الحاضر منها والماضي، وقياس الغائب على الشاهد، وما بين الغائب والحاضر من الموافقة أو الاختلاف، وتعليل المتفق عليه منها والمختلف.

            [ ص: 173 ] 8- عدم الإلمام بأصول الدول والملل، ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها، ودواعي كونها، وأحوال القائمين بها وأخبارهم، يقول ابن خلدون: «حتى يكون مستوعبا لأسباب كل حادث، واقفا على أصول كل خبر، وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان، وإلا زيفه واستغنى عنه»..

            9- يقول ابن خلدون: «إن من أسباب الغلط الخفي في فهم التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصر ومرور الأيام، وهو داء دوي شديد الخفاء، إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يفطن إليه إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنة الله التي قد خلت في عباده».

            10- من أسباب الغلط والخطأ في تدوين التاريخ، تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح، وتحسين الأحوال، وإشاعة الذكر بذلك، فتستفيض الأخبار على غير حقيقة، فالنفوس مولعة بحب الثناء، والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه وثروة، وهذا يمكن أن يعد من أنواع التشيع للأشخاص والهيئات، وليس من باب التشيع للآراء والأفكار.

            11- ومن أسباب الغلط والخطأ في فهم التاريخ الاجتماعي، الذي يتعلق بعادات الأمم والشعوب والجماعات، خاصة الجماعات البدائية، التي كانت [ ص: 174 ] معزولة: الذهول عن فهم المعاني البعيدة والعقائد الخفية في ثقافة تلك الجماعات والتي تختلف اختلافا كبيرا عن عادات الجماعات المتحضرة، وأكبر الخطأ الذهول عن المقاصد والأهداف والقيم، التي يؤمن بها أولئك البدائيون، وتفسير سلوكهم، بالمقايسة على سلوك الباحثين المتحضرين، وهذا الذهول عن الفهم الحقيقي لسلوك البدائيين بناء على معتقداتهم البدائية الممزوجة بالسحر والخرافة والشعوذة، يقود إلى أخطاء فادحة، خاصة في وضع نظريات علم الأجناس (الأنثروبولوجيا (ANTHROPOLOGY، فلا بد للباحث في أحوال أولئك البدائيين من النفاذ إلى ما وراء الظواهر، ومعرفة التفسير الحقيقي لسلوك أولئك البدائيين، وما يعتمل في نفوسهم وضمائرهم، وما ينبني على قيمهم ومعتقداتهم البدائية الموغلة في السحر والشعوذة والأوهام والأباطيل.

            12- «ومن أسباب الغلط في فهم التاريخ عند ابن خلدون، الجهل بباطن الوقائع، وأخذها على ظاهرها، وعدم التدقيق في بواطن الأمور وحقائقها الدقيقة، فإن كثيرا من الوقائـع ليست في الواقع كما تبدو في الظاهر، ولا بد من الغوص في الحقائق المستترة، التي هي بواطن الأمور وجوهرها الحقيقي.

            فالناس كثيرا ما يتصفون بالأشياء، ويتعمدون التلبيس والتظليل لأشياء شتى، ويتظاهرون بالغنى والأبهة والأموال، وهم في الواقع ليسوا كذلك، وإنما يتصنعون ذلك لإيهام الغريب بأنهم من علية القوم، ومن المشهورين الكرماء، وهم في الواقع ليسوا كذلك، كما قال أبو الطيب المتنبي، رحمه الله، واصفا سلوك كافور الإخشيدي:


            جوعان يأكل من زادي ويمسكني لكي يقال عظيم القدر مقصود



            [ ص: 175 ] فنقل الأخبار بلا روية وتدبر، وبلا غوص وراء المسـتور والحقائق الأصلية هو نوع من الخطأ والغلط في نقل الأخبار والوقائع، وفي فهم التاريخ.

            وخلاصة القول: إن ابن خلدون كان متقدما على عصره، وكان رائدا ومبتكرا عندما بين أوجه الخطأ والغلط في فهم التاريخ، ودعا إلى منهج الفهم النقدي، وإلى تمحيص الأخبار والوقائع بناء على فهم عميق بطبائع الناس، وطبائع الأحداث والوقائع في حد ذاتها، وفي نفس واقع الأمر (فإن كل حادث من الحوادث، ذاتا كان أو فعلا، لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته، وفيما يعرض له من أحواله) فإن مثل هذه المعرفة العميقة هي التي تمكن الباحث من المعرفة النقدية للأخبـار والوقائع، إذ لا يمكن تمحيص أي خبر أو واقعة دون المعرفة الحقيقية بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم في البقاع والأمصار.

            ما تقدم يعني أن دراسة وتفسير أو نقل الأحداث التاريخية، كل ذلك يجب أن يعتمد على معرفة القوانين، التي تخضع لها العملية التاريخية، أي على فهم الرابطة السببية لظواهر الواقع الاجتماعي، فبفضل ذلك فقط نستطيع أن نفهم جيدا الماضي ونشـرح بشـكل سليم الحاضر ونسـتقرئ بدقة عملية المسـتقبل.. أما بخلاف ذلك فلا يمكن لنا تمحيص الحقائق التاريخية، وسوف وسيبقى المؤرخ بذلك ساردا وليس دارسا للوقائع، وناقلا وليس متفحصا للأخبار التاريخية [1] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية