الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            2- دافعية استقراء المعاني التاريخية من القرآن الكريم ضمن رؤية تاريخية:

            قدم عماد الدين خليل إشارات جلية حول هذا الفهم وتحققه وأثره في بناء تصـور تفسـير إسـلامي للتـاريخ فيما يمكن تسـميته «العـودة إلى الأصـول»، فقد أوضح أن الرؤية التاريخية ترتبط ارتباطا وثيقا بالقرآن الكريم، فكل سـور [ ص: 210 ] القرآن وصـفحاته توجـد بها إشـارات تاريخية، تشكل نسـقا مكتملا للتفسـير الإسلامي للتاريخ.

            فالقرآن اشـتمل على دعوات قائمة للتأمل وللدرس والاستعداد للخلوص إلى نتائج في إطار المطالعة التاريخية حول مصير الحركة البشرية في الزمان والمكان، وأثر الإنسـان والقوى الكونيـة في أمدائـها القريبة والبعيـدة، ثم إن النـذير الإلهي في آيات القرآن ينبثق من رؤية وتفحص للتـاريخ؛ وهذا الفعل شـبيه بفعل العقل الحـاضر، الذي يلتمس العبرة من التـاريخ، كما تجارب الأمم الراهنة والحديثـة تتجه إلى التماس الحجـج والأسـانيد والمبررات من العمق التـاريخي، وكل الثـورات والفكر الإنسـاني إنما هو مزج بين فكر وتجربة ورؤيـة تاريخية، وقد جاءت قصص القرآن وصوره ومشاهداته لغرض الاعتبار بمصائر الأمم، ولإدراك العواقب، بخيرها وشرها [1] .

            لقد أعطى القرآن الكريم للعقل العربي مناهج جديدة للتفكر العلمي ضمن رؤية تركيبية للكون والحياة والوجود، تربط بين الأسباب والمسـببات، فيما يمكن تسـميته بعنصر السـببية، ليتجـاوز العقل العربي النظرة التبسـيطية المفـككة، التي تعاين الأشـياء كما لو كانت مفككة معزولة ومنفصلة بعضها عن بعض، وقد مكن هذا من إيجاد تصـور اسـتشرافي للمسـتقبل يتجاوز الظـواهر، بحثـا عن العلائق والارتباطات ووصولا للحقيقة الكاملة.

            [ ص: 211 ] كذلك قدم القرآن تفسيرا لحركة التاريخ البشري، الذي ينتظمه نسق كوني قوامه التراتبية وعدم الفوضوية، والسنن والقوانين.. فالوقائع التاريخية لا توجد صدفة، وإنما من خلال شروط هي قوانين تحكم حركة التاريخ.

            ويظن عماد الدين خليل أن هذه الرؤيـة إنما هي منهج كامل في التعامل مع التـاريخ البشـري، ولم يتح لعلماء المسـلمين أن يعطوا مؤشـرات لهذا المنـهج إلا بعد مضي خمسة قرون من نزول الكتاب الحكيم، وهذا يؤكد التأثير المستمر لدفق كلمات القرآن وتجدد معانيه، التي لا تخلق على كثرة الرد.. إن المنهج الذي أشار إليه القرآن يبرهن على أن التاريخ لا يكتسب أهميته الإيجابية إلا بأن يتخذ ميدانا للدراسة والاختبار، تستخلص منه القيم والقوانين التي يستقيم بها الحاضر والمستقبل [2] .

            ويظن مالك بن نبي أن القرآن يوضح تصورا عمليا لدراسة الأديان بطريقة علمية وعقلية، بل ولدراسة الإسلام نفسه من خلال دراسة الأديان السـابقة وتـاريخها، يقول الله عز وجل: قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي (الأحـقاف:9) [3] ، حيـث تدلل الآية على أن ذكر الرسالات السـابقة في القرآن وقصصها وحكاياته إنما يتوفر لمغزى عملي وواقعي.

            كما أوضح بن نبي أنه من الممكن استخدام الروايات التاريخية في القصص القرآني في الدراسات الدينية المقارنة المعاصرة، فمثلا من الممكن اكتشاف [ ص: 212 ] الأخطاء التـاريخية الواردة في التوراة (المحرفة) في قصـة يوسـف، عليه السـلام، عند مقابلتها مع قصة يوسف في القرآن الكريم [4] .

            وقد بين كثير من المفكرين المعاصرين الجوانب الحيوية لكتاب الله عز وجل في تأثيره على واقع المسلمين ومستقبلهم، فيرى فضل الرحمن أن القرآن ومنذ بداية نزوله لم يكن نص عبادة فحسب، أو نصا للتقوى الفردية.. وكان فقهاء المسلمين على مر العصور يستمدون إجابتهم من القرآن، وإن كانت حدثت إخفاقات فسبب ذلك هو غياب المنهج الصالح لفهم القرآن.. وثمة إخفاق عام في فهم وحدة القرآن [5] .

            في الواقع، فإن هذا الفهم هو الذي تأسست عليه مدرسة التفسير الإسلامي للتاريخ، فقد اعتبرت أن القرآن فيه ما يدعو ويبشر ويبرهن على استنباط قوانين تاريخية تستمد روحها ومعالم وجودها من كتاب الله الحكيم.

            والقول في إطلاقه كذلك محمود تدل عليه تصورات كثير من علماء الأمة من السلف، لكن في هذا المقام أيضا تلوح لوائح مهمة وتساؤلات كبرى حول المضـامين التفصيلية لهذا الخطاب العلمي، ومدى إمكانية توافقه مع مناهج العلم المعاصر، التي توصلت إليها الجماعة البشرية في أناة وجهد وعهود متقادمة.

            [ ص: 213 ] وتبقى هذه المناهج جهدا بشريا خالصا، قابلا للخطأ والصواب وللأخذ والرد، وكذلك فهم القرآن إنما هو أيضا جهد بشري يقبل ما يقبله الفعل البشري من نقد وتقويم وقبول ورفض.

            وفي هذا الجانب نلاحظ أن بعض المفكرين والباحثين المعاصرين يعارضون رؤية مدرسة إسلامية التفسير التاريخي معارضة تامة، وبعضهم قد يتفق مع بعض جوانبها ويختلف مع جوانب أخرى، ربما الجوانب التطبيقية منها، ويتشكك نفر من هـؤلاء وهـؤلاء حول نوايـا ودوافع أو ربما فاعلية وعلمية هذه المدرسـة، ولن نكون مخطئـين بأي حال من الأحوال إذا اعتبرنا كتابات مثل كتـابات محمد شحرور لا تتسـق روحها ولا تنسجم مع تصورات مدرسة التفسير الإسلامي للتاريخ إلى حد ما.

            فنحن نجد أن محمد شحرور (وهو أحد المعاصرين، الذين تجاوزوا الرؤية الإسـلامية الصحيحة وقدموا آراء شائهة في فهم الدين) يحاول أن يدس السـم في الدسم عندما يعطي انطباعا كليا أن فكرته، التي يطرحها عن القرآن و«أسلمة المعرفة» لا تريد أن تناقض الاتجاهات الكلية لأصحاب مدرسة «أسلمة العلوم»، فهو يقول في تقديمه لفكره، الذي يهاجم التصور الإسلامي السديد: إن غياب نظرية إسلامية في المعرفة الإنسانية مصاغة صياغة حديثة معاصرة مستنبطة حصرا من القرآن الكريم لتعطينا ما يسمى إسلامية المعرفة، بحيث تعطي هذه النظرية منهجا في التفكير العلمي لكل مسلم، وتمنحه الفاعلية في التعامل مع أي نتاج فكـري للإنسـانية.. إن غياب هذه النظـريـة، المصـاغـة صياغـة معـاصرة، [ ص: 214 ] أدى بالمسلمين إلى التفكك الفكري، والتعصب المذهبي، واللجوء إلى مواقف سياسية تراثية، وقد أدى ذلك إلى التشنج وضيق الأفق [6] .

            ومع مزيد من التفصيل في حوارات شحرور نجد أنه يهاجم المدرسة التراثية السلفية، ويرى أنها قد كبلت الاجتهاد وقيدته - وقد أشرنا إلى بعض من هذا- ويمكننا القول: إن النتائج التي توصل إليها شحرور لا توافق النتائج التي توصل إليها عماد الدين خليل.

            ونجد أن شحرور يريد أن يخضع المنطق القرآني لنظريات العلوم المادية المعاصرة، فهو مثلا لديه تفسير لنظرية التطور والارتقاء لداروين، يقوم تفسيره على إعادة فهم القرآن ليتسق مع النظرية، يقول: «الذين يرفضون نظرية التطور والارتقاء ويسخرون من نظرية داروين بزعم أنها غير علمية وحجتهم قائمة على التساؤل التالي: لماذا تطور الإنسان من القرد، وبقي القرد قردا؟ وجوابنا هو أن الله تعالى نفخ الروح في البشر وهو فصيلة من المملكة الحيوانية فأدى ذلك إلى أنسنته وارتقائه من الحيوانية، ولو أنه نفخ الروح في فصائل أخرى لارتقت أيضا» [7] .

            وفي الواقع، إن هذا مناقض لما لدى دعاة مدرسة «التفسير الإسلامي للتاريخ»، إذ أن هؤلاء، كما أوضحنا، يعتقدون أن الغيبيات هي التي يجب أن تخضع لمنطوق العلم وليس العكس!! وفي المجمل فإن ما ذهب إليه شحرور وأضـرابه يقع ضمن الهجوم على ما أرسـاه مفكرو المسـلمين عبر قرون طويـلة [ ص: 215 ] من مفـاهيم جـادة وقيم أصـيلة في اسـتدراك المقاصـد المعرفية للقرآن الكريم، وقد اضطررنا إلى ذكر جانب مما جاء به لتوضيح أن عددا من معاصري اليوم يعيدون تمثيل الفكر القديم لضلالات وأباطيل عرفها المسلمون من أبناء جلدتهم.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية