الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            أخيرا: «التفسير الإسلامي للتاريخ»:

            هل ثمة اجتهاد وإجداد في فهم الأصول؟:

            من الضروري الإشارة إلى أن المدرسة الإسلامية في تفسـير التاريخ ليست هي مدرسـة منفصـمة عن الطريقـة العلمية أو تريد أن تقدم مقاربات تجـابه أو تصادم تـطور أو مبادئ العـلوم الطبيـعية أو الإنسـانية، أو هي مدرسـة تفارق الأسـاليب العلمية في فهم وقراءة التاريخ، كما أنها وروادها ليسوا مجرد أتباع [ ص: 248 ] لمناهج غربية أو شرقية معتلة أو غير معتلة، وليس اتباع المنهج العلمي أو الطريقة العلمية [1] بالضرورة يجعل من المؤرخين أو غيرهم ممن يكتب في العلوم الاجتماعية متبعا لتصور غربي أو شرقي، أيا كان مصدره ومنشأه ومحل وجوده.

            ومن الجلي كذلك أن رواد مدرسة «أسلمة العلوم»، وكثير منهم ممن تلقى تعليمه في الغرب، قد سعى إلى إرادة التفلت والتحرر من معطيات المستشرقين، ولم ترضـه نتائـج الطبقة الأولى من المبعوثين إلى الغرب من أبناء المسـلمين، الذين كتبوا وألفوا ودونوا بناء على نتائج المستشرقين وكتابات المدارس الفكرية الغربية الحديثة، وأمثلة هؤلاء كثيرة في التاريخ الحديث.

            ربما كان من معايب المدرسـة الإسـلامية في التاريخ فيما يتصل بدافعيتها في التواصل مع التراث، هو إرادة هذه المدرسـة في بناء منطق يقوم على نظرة كلية في فهم تاريخ المسلمين، في إطار التعامل مع التاريخ الإسلامي، وقد يدعو ذلك إلى الكتابة التي تظهر مزيدا من التقدير والإجلال لأجيال المسلمين السابقة من الحكام والقادة وطبقات العلماء، وعدم قبول أو رد أية محاولات تضعف مكانة هؤلاء، هذا مع عدم إغفال أن أبناء هذه المدرسـة يقولون: إن الأسـاس [ ص: 249 ] في ذلك هو صـحة الروايـة والإسـناد وقبول أصـولها، من حيث الدقة وحسن الحفظ... إلى آخر الضوابط المعتمدة عند المحدثين وعلماء الأصول.

            وفي هذا الجانب - على الرغم من سلامة مقاصده- تظهر نتيجتان:

            الأولى، أن إطلاق والتأكيد على هذه الروح في مناخ البحث العلمي التاريخي قد يحول التاريخ الإسلامي إلى منطقة مقدسة ويعطي نصوصه ورجاله نزاهة وتبجيلا، ليس هذا محلها أو مقامها..

            ونتيجة ثانية، أن الازدراء الذي ساد بسبب كتابات المستشرقين ومن لف لفهم ونادى بمنطقهم، ربما خفت صوته وقلت ملامحه وصـورته، لما في التاريخ من ملهمات وبواعث على النهوض، ومحركات للواقـع والمسـتقبل، ولا يمكن لأمة أن تقوم دون النظر في تاريخها، ومعاينة العظماء من الأجيال السـابقة، وهذا لا ينفي حركة النقد ولا يمحوها، لكنه يمكن أيضا أن يحول الصورة الذهنية للقادة التاريخيين كأنهم من خارج الدائرة البشرية!

            وتمجيد قادة الأمة عبر التـاريـخ، من قام منهم بأفعـال عظيمة ومؤثـرة في خدمة شعوبهم، ليس مسلكا خاصا بجماعة دون أخرى، فما زالت الأمم الغربية تحتفي برجال أنجزوا الكثير للأمم الأوربية والغربيـة، وقد كان هذا حقـا وفي بعض الأحيان باطلا.. لاحظ مثلا التمجيد الذي يجده «فاسكو دي غاما» لدى كثير من الغربيين على ما ارتكبه من فظائع وجرائم، لكن هذه الجرائم كانت بحق أبناء المسلمين -في الغالب- ولم تمس أوربا.. انظر كذلك ما فعلته أمريكا بعد القنبلة النووية على اليابان، لما حرمت حمل السلاح وجرمت إنتاجه ومنعته منعا كاملا، كيف تعامل الجيش الأمريكي مع المقتنيات الأثرية والتي لا تقدر بثمن [ ص: 250 ] من أسلحة اليابانيين التقليدية من سيوف وغيرها؟ لقد ألقت بها في محرقة لتذويبها والحصول على الحديد مقابل ذلك.

            وهذه الأمثلة لا تحصى في التاريخ الحديث، لكن الأصوات بحق كل هذه الجرائم يظل خافتا حتى في الأجواء والبيئات التي تصنع العلوم.

            وفي ذات المنحى كذلك يناقش بعض الأكاديميين العرب النظرة التاريخية إزاء تاريخ المسلمين، وهي عين النظرة القديمة في أوساط مختلفة وحتى خارج دائرة التاريخ، وأصل هذا النقاش يتناول: هل ما يرد في تاريخنا هو نظرة أحادية مصـدرها الإجلال والتقدير لتاريخنا، دون اسـتصحاب لجوانب تاريخية مظلمة في هذا التـاريخ؟ هل تتضـمن الحكاية التاريخيـة وجهين للرواية، ونحن لا نأخذ أو نذكر أو نتباهى إلا بالجانب الإيجابي فقط؟ وهذا قديم جدا، وهو عقيم كذلك، نجد محمد طـاهر المنصـوري يقول: إنه لا يمكننا الاعتبـار من التـاريخ ما دمنا نغفل عن الجوانب السلبية به، فكيف يحق لنا أن ننظر إلى الأبطال التاريخيين من جهة القداسة فحسب؟ ... ويظن أن ذلك سبب في ضعف الكتـابة التـاريخية في العالم الإسلامي، فغياب النقد العلمي، والمراجعات الجريئة كان مما أضعف ويضعف كتابة التاريخ [2] .

            وفي جانب التعامل مع التراث، لا يفوتـنا هنا أن نتوقف عند ما ألمع إليه طه عبد الرحمن فيما سـماه «الممارسـة التراثية»، فهو يعيب على المنقطـعين [ ص: 251 ] عن التراث على الرغم من ادعائهم بالزهد في التراث إلا إنهم يلجأون إلى تراث آخر هو الثقافة الغربية الحديثة، مقلدين لمسـالكه، متشـبهين بأصحابه، مقتصرين معه على ما يقيم صلتنا بتراث ماض غيره (الثقافة اليونانية القديم).

            ويظن طه عبـد الرحمن أن الدعوة إلى تقويم التراث إنما يجب أن تـكون على معرفة به أولا، وإن كنت أظن أنه قد قدم نقدا لاذعا لا حاجة لنا به هنا، كما أنه لا يتفق مع فكرة التناول الرفيق الهادئ فيما يلي موضـوعات الحوار والنقاش، ويرى أيضا أن نقاد التراث قد استخدموا أدوات البحث، التي اصطنعها المحدثـون، من مفاهيـم ومنـاهج ونظريـات، وفي ظنـه أنه ليس كل ما نقل عن المتأخرين هو أولى مما نقل عن المتقدمين، ويعتقد أن نظرته للتراث تتخذ منحى تكامليا في تقويمه (أي التوفيق بين القديم والحديث) على خلاف الذين اتخذوا مذهب التفاضلية (أي تفضيل الحديث القائم على غيره) ، وأنه اسـتخدم أدوات أصولية أو تأصيلية على خلاف الأدوات المنقولة، ويعيب على الجابري اتجاهاته في التقويم التجزيئي للتراث (رد كل جانب في التراث الإسلامي إلى بعض أصوله في التراث غير الإسلامي) بسبب استخدامه لأدوات منقولة [3] .

            إن من الإشكالات التي تثيرها فكرة «أسلمة العلوم» على وجه كلي، مسألة تصور «الأمة القطب» أو «الأمة المنطلق»، وهي رؤية مستوحاة من ناحية إسلامية صحيحة في أصلها، أن أمة المسلمين أمة واحدة، إذا اشتكى منها عضو [ ص: 252 ] تداعى لها سائر الجسد بالسهر والحمى، وإن كنت أظن أن فكرة «الأمة القطب» هي فكرة أكثر توسعا، ولا تقف عند المفهوم المبسط للوحدة العضوية للمجتمعات الإسلامية، وإلا فكان الأولى مثلا أن نسميها الأمة الجسد، أو الأمة البدن، إشارة إلى البناء الواحد المتصل المركب بعضه ببعض، هذا بالطبع إذا جاز لنا أن نطلق تسـمية بديلة، وهي أقرب إلى روح الحديث النبوي المشار إليه والذي دلل على مفهوم الوحدة العضوية عند المسلمين..

            أما فكرة «الأمة القطب» والمراد منها هنا المشـروع الإصـلاحي الكبير، أي غاية هذه المفهوم وهدفـه خـدمة مشـروع الإصـلاح هذا، فهي فكرة تريد أن تتجاوز الإقليميات والمحوريـات وصولا إلى إمبراطورية إسلامية معاصرة، يبدو أن عناصر هذه الفكرة مستترة، لكن خصائصها تعبر عن هذا النسق وتحدده تمثيلا وتشبيها، فهي حسب مصطلح طه جابر العلواني هي: «قاعدة الانطلاق باتجاه العالم والعالمية» [4] .

            فالأمة بهذا المفهوم ذات أبعاد سياسية اجتماعية واضحة، تسعى إلى إيجاد وتأسيس بعد سياسي على مسـتوى الحكم والدولة والسـلطة.. وكما ذكرت: هل يجوز أن يعاد المشـروع الإسلامي العابر للحدود في السلطة في ظل تحولات ما بعد الحداثة؟ أو يجوز القول بإعادة الإمبراطـورية الإسـلامية التاريخية، تحت [ ص: 253 ] أي مسـمى أو إطار فكري؟ إن الذي بشر به العلواني هو تأطير لهذا الجانب، وهو يتجاوز فكرة الأمة الجسد، كما أوضحنا.. لكن ما صلة ذلك بالمعرفة؟

            إن الإطار الذي يتناوله العلواني هو استدعاء تاريخي، يفترض الحتمية التاريخية -فيما أظن- ويتناول الأبعاد التأسيسية الفكرية والتنظيرية لمشروع مشابه، والإشكال هنا: هل يقوم هذا التصور على معضدات معقولية، واستنتاجات واسـتقراء سـليم، يتفق مع الحس والمنطق السـديدين، أم أنه ووفقا لمصـطلح وجيه كوثراني محاولة (توليفية) تعالج التراث باستشراف المستقبل؟

            وفي اعتقادي، أنه يجوز التفكير في التراث على أوسع نطاق، فالتراث هو مصدر إلهام الأمة والمجتمع، وهو نبعها المعين على الفهم والإجداد والتحديث، وهو مصـدر حياتها في النهوض والبعث، وليس ثمة تعارض، لكن هل كل بحث في التراث قد قعدت قواعده على المذهب أو إلغاء السليم، الذي لن يصطدم بواقع التحديات؟

            إن غيـاب النظـرة الكلية الشـمولية في هذا الاجتـهاد وبهذا الخصـوص، في ظني، غائبة وغير قائمة، وظاهرها أشواق وتطلعات، تفتقر إلى المنهج والتصور المناسب.. وإذا ذهبنا أبعد من ذلك نلحظ أيضا أن مذهب «أسلمة العلوم» (جانب العلوم الاجتماعية) استنادا على الفكرة السابقة، يناقش كذلك فكرة: «الوحدة المرجعية»، و«الالتزام الجمعي»، وهي كذلك تصاحبها إشكالات أساسية، إذ هل يجوز أن تصبح مثل هذه الخصيصة ضمن الخصائص المعمول بها في مناهج العلوم الإنسانية، فيصدر الباحثون في هذا المجال (وفي الكتابة التاريخية بجهة أدق) عن قوس واحدة اسمها الالتزام الجمعي؟ ولا أطلق هذا التساؤل [ ص: 254 ] استخفافا أو جنوحا نحو نقد غير مؤسس، غير أني هنا أتساءل عن المنهج الرابط بين كل هذه الدعاوى.

            يقودنا هذا إلى الرأي الذي عرض إليه أبو شوك، وقد فصلنا فيه في أول صفحات من هذه الدراسة، وهو أن الكتابات حول «أسلمة العلوم» والتفسير الإسلامي للتاريخ ما تزال بحاجة إلى جهود أكبر، ويغيب عن جانب منها التماسك والرؤية الكلية المناسبة.

            ومن المناسب القول: إن المطلع على جانب من الكتابات في هذا الجانب، يعوز أكثرها التناول المتصف بالناحية المنهجية، والمقاربات الفكرية، والبناء المعرفي العلمي الذي يتبع التصـورات الواضـحة، وهذا بكل تأكيـد لا يمس الفـكرة في جوهرها وروحها وغايتها، ولا يجرؤ أن يقلل من قيمتها، فضلا عن الإشـارة إلى خلوها من منطلقات غير علمية.

            إن هذه الكتابات وجميع الكتابات في هذا الجانب، إما صنيعة مؤرخين مختصين أو فقهاء أو مفسرين أو علماء شريعة، لكن بعضها يظل يمتلك خطابا بلا محددات أو موجهات أو مدركات نهائية، أضف إلى ذلك بعض النزعات، التي تتبنى أساليب عامة وفضفاضة في عرض المسألة.. لاحظ مثلا ما قدمه بعض الباحثين في الدعوة إلى معالجة الكتابات التاريخية وفق التأصيل الإسلامي، وضرورة الرد على الكتابات التي تكتب بمعزل عن المنهج الإسلامي للدراسات التاريخية - هذا مع الافتراض بوجود منهج قائم بأصوله وقواعده - بل إن دعوة [ ص: 255 ] هؤلاء تتطرف إلى ما هو أبعد من ذلك بالمناداة بإيجاد نماذج بديلة عن مناهج التاريخ القديم

            [5] .

            يخلص وجيه كوثراني -كما أوضحنا في الفصل الأول من هذه الدراسـة- إلى رؤية ذاتية تناقش فكرة «أسلمة التاريخ» على وجه عقلاني يحاول فيه أن يصل إلى تصور مناسب في توصيف وضعية مدرسة التفسير الإسلامي للتاريخ حاليا، حيث يعتقد كوثراني أن الصياغة الإسلامية المحدثة عند عماد الدين خليل مثلا ضمن مشروع «أسلمة التاريخ»، هو منهج سجالي مع الفلسفات التاريخية الغربية للوصول إلى اعتماد منهج تاريخي تكاملي يستخرج من منطوق الآيات في القرآن الكريم، وهذا المنطوق يبقى مشحونا بالتأويل عبر ما تحمله من مدارس الفكر التاريخي الغربي إلى العقل الإسلامي المعاصر، من معان ودلالات وتأثيرات.

            إن السجال -كما يظن كوثراني- مع المدارس التاريخية الحديثة يوصل خليل إلى تفسير لآيات القرآن الكريم تتوافق مع تكاملية المنهج التاريخي في مستوى تنوع أبعاد السنن والقوانين في العملية التاريخية.

            [ ص: 256 ] ويربط كوثراني عرضه لهذه المسألة بما توصل إليه محمد باقر الصدر في التفسير الموضوعي للقرآن، حيث كان ما قدمه يصور توضيحا صادقا على التأثير اللا واعي للعلم التاريخي الغربي في العقل الإسلامي المعاصر.

            ويقيم كوثراني في نهاية نقده لمدرسة التفسير الإسلامي للتاريخ اعتقادا يذكر فيه أن الدعوة إلى منهج تاريخي إسلامي معاصر ستبقى دعوة تماثلية، فيها الكثير من التماهي مع ما أنتجه الفكر الغربي من مدارس يجري على أساسها تأويل معاصر لخطاب الوحي المنفتح على الزمن والمكان، يقول:

            «لهذا فإن صـناعة التاريخ تبقى في جانب تتداخل فيه هموم الحاضر وأهداف المستقبل ولكن فيه أيضا تأثير أدوات المعرفة والاكتشاف المتجددة دائما، لهذا فإن الإنتاج التاريخي الذي يمكن أن يندرج تحت عنوان: (المنهج الإسلامي) لا يخرج عن نطاق التاريخانية المشبعة بالسرد والإسناد من التراث الإسلامي من جهة، ومن الأسلوب الغربي الحديث المتوزع على مدرستي التاريخانية ذات الاهتمام بالتطور التاريخي، وتعاقب أنماط المراحل، أو بتطور الأفكار المتمحورة حول هوية الأمة والدولة من جهة أخرى» [6] .

            [ ص: 257 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية