الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            4- تطور الكتابة التاريخية تأثرا بالقرآن الكريم:

            لاحظ بعض الباحثين أن بعض نظريات فلسفة التاريخ مبثوثة في كتابات مؤرخين لاحقين.. ففي نظرية توينبي، في التفسير الحضاري للتاريخ -على سبيل المثال- يبرر مبدأ التحدي والاستجابة، ومسألة الحد الوسط، وكيف أن السهولة البالغة للبيئة لا تستثير تحديا، ولا تنشئ بالتالي حضارة.. وفي المقابل، فإن الصعوبة البالغة، تضع الاستجابة في حالة استحالة، وتجهض أية إمكانية لنشوء الحضارة، بالتالي. وهكذا فإن الحد الوسط، الذي تتوازن فيه المصاعب، والتيسيرات، هو الذي يشكل نواة الاستجابة، ويمنح الفرصة للتحقق الحضاري، عبر التاريخ.

            وهذا نظير لما جاء في بعض آيـات القـرآن الكريم، مثـلا الآيـة القـرآنية الكـريمة: إنا كل شيء خلقناه بقدر (القمر:49) ، والآيـة الكريمـة: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير (الشورى:27) ، وبغيرهما من الشواهد القرآنية، التي تؤكد المعنى نفسه. وكذلك بالآيات الخاصة بتذليل [ ص: 142 ] الأرض، ومنحها المواصفات، التي تمكن الإنسان من ممارسة مهماته العمرانية في العالم، وكذلك بآيات التسخير، التي تجعل العلاقة بين الإنسان والكرة الأرضية علاقة تمهيد مسبق، وظروف مواتية، وبالقدر المناسب، لتنمية الحياة، وللتحقق بالمزيد من الإنجازات، والتيسيرات، وهو شبيه أيضا بدعوة القرآن المؤكدة، في حشود المقاطع، والآيات، إلى ضرورة التنقيب في الأرض، لاستخراج الخامات، والنظر في السماء لإدراك سننها ونواميسها، فيما يمنح الإنسان -في الحالتين - فرصة للتحقق العلمي: النظري والتطبيقي والذي يعد أساسا لقيام الحضارات، وديمومتها.

            كما أن القرآن يناوئ الترف؛ لأنه يمنح الحياة استرخاء أكثر، ويحيطها بالتيسيرات المبتذلة، التي يضيع معها شد القدرات، واستفزاز التحديات، على كافة المستويات، الجسدية والنفسية والأخلاقية، ويسوق الحياة بالتالي إلى التفكك والدمار، في مقابل غياب متزايد للفعل والإنجاز.

            في النظرية المذكورة، نجد كذلك كيف أن معظم الجماعات والعروق البشـرية أعطيت الفرصة لكي تنشـئ حضـاراتها الخاصـة بها، بغض النظر عن مواقعها في الزمن والمكان، وعن أصولها البيضاء، أو السمراء، أو الصفراء. وهذا شـبيه بالآية القرآنية الكريمة، التي تقول: كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا (الإسراء:20) ، وبالآية الكريمة: من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء ... (الإسراء:18).

            [ ص: 143 ] طبعا، هاتين الآيتين، أو أي شاهد قرآني يتضمنه بحث أو مقال ينطوي على أكثر من بعد، ويمنح أكثر من مغزى، فلا يقتصر على المعنى، الذي ذهب إليه هذا المفسر، أو ذاك، ولا يقف عنده، اللهم إلا في أنماط معينة من الآيات المعنية، مثلا، بالعقيدة أو التشريع. إنما يرد الاستشهاد ها هنا، أو يلتقي مع تلك الدلالات القرآنية، التي تتوازى بدرجة أو أخرى، مع كشوف، ومعطيات، مفسري التاريخ، وفلاسفته.

            وثمة مفردة أخرى، في نظرية توينبي، يمكن أن نشير إليها هنا، أن سقوط العثمانيين، نتيجة (ضغط) التفوق الغربي، وبسبب من عدم الالتفات إلى حقيقة أن الانتشار العسكري، وحده، لا يحمي الجماعة، إذ لا بد أن يدعمه، ويغذيه، نمو علمي وتطبيقي، وبخاصة في تكنولوجيا السلاح. إننا نتذكر هنا التعامل القرآني مع خامة الحديد، بشكل مباشر، في الآية الخاصة بالموضوع، في السورة، التي سميت بالاسم نفسه: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز (الحديد:25).

            وفي المقطع الخاص بذي القرنين والسد الذي أقامه، لحماية المستضعفين في الأرض: حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا (الكهف:93-97).

            أو بشكل غير مباشر في الآية الخاصة بالإعداد العسكري: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة (الأنفال:60).

            [ ص: 144 ] وبالمقطع الخاص بتسخير الطاقات الكونية، لداود وسليمان، عليهما السلام، في سورة (سبأ).

            ونعمد هنا للمقارنة، بين المعطيات القرآنية وبعض جوانب التفسير الحضاري للتاريخ، حيث نجد تأكيدا، في المستويين، على ضرورة التصنيع، واعتماد خامات الأرض، والنمو العلمي، الصرف والتطبيقي، إذا ما أريد تنفيذ إسناد جاد للانتشار في الأرض، وإلا فإنه الانحسار، والتفتت، والدمار.

            و«توينبي» يتحدث، عن «التقليد»، ودوره في بناء الحضـارات، فيشير إلى نمطين أسـاسـين من التقليد، الذي تمارسـه الأكثريات «البرولياتارية»، كما يسميها، أحدهما: تقدمي، بتقليد الأكثرية للقلة، أو النخبة المبدعة، وثانيهما: رجعي، بتقليدها للآباء والأجداد.. في الحالة الأولى، يمارس التقليد نقلا، ونشرا للقيم الإيجابية، في مناحي الحياة العقلية، والاجتماعية، والنفسية كافة، فيمضي بالفعل الحضاري، صوب المزيد من النمو، ويحصنه ضد عوامل الانكماش، والانحسار، والتيبس، والفناء.

            [ ص: 145 ] وفي الحالة الثانية، يمارس التقليد خطيئة الشد الأعمى إلى الماضي، وتقليد الآباء والأجداد، تقليدا (وثنيا) ، بغض النظر، عن مدى سلامة مواقف الآباء والأجداد، الأمر الذي يعرقل حركة النمو الحضاري، ويشل فاعليتها، ويميل بالمجتمع إلى السكون، والتراجع، بسبب من تشنجه على معطيات خاطئة، مضى زمنها، وانقفاله على كل دعوة جديدة، متحررة من الأسر، قديرة على أن تقوده خطوات إلى الأمام.

            ولطالما حدثنا كتاب الله عن هذا التقليد (السيء).. هذا الموقف الرجعي، الذي يقود الأكثريات إلى الاختباء وراء شعارات الآباء والأجداد، ضد كل دعوة جديدة، يقودها نبي أو رسول:

            - وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا (الأعراف:28) ،

            - قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا (يونس:78) ،

            - قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين (الأنبياء:53) ،

            - قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون (الشعراء:74) ،

            - قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا (لقمان:21) ،

            - قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون (الزخرف:22) ،

            - وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (البقرة:170) ،

            [ ص: 146 ] - وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (المائدة:104) ،

            - وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون (الزخرف 23- 24) ....

            وغير هذه الشواهد عشرات أخرى!

            إن القرآن الكريم، وهو يدين هذه المواقف الرجعية الساكنة، التي كانت واحدة من أشـد عوامل المجابهة، والعداء، ضد الرسالات السماوية، إنما يدعو في المقابل إلى اتخاذ موقف تقدمي، متحرر.. بمعنى: اختيار الحركة، صوب الأمام، والتحرر من سائر الضغوط، التي يمارسها الإلف، والعادة، من خلال التشبث بتقاليد الآباء والأجداد، التي عفا عليها الزمن.

            وكل تلك الأمثلة في التناظر والتقارب حول سنن الله، التي صورها لعباده في كتابه الكريم، ما هي إلا شواهد وأمثلة محدودة للمقارنة.

            وفي غير التفسير الحضاري لتوينبي، هناك مثالية «هيغل»، ومادية «ماركس»، و«أنغلز»، ودورية «اشبنغلر».. إلى آخره.. ويستطيع المرء، أن يجد في بعض كشـوف هذه النظريات، مفردات إيجابية قد تلتقي مع المعطى القرآني، في هذا الجانب، أو ذاك، ولكن هذا لا يعني، سـواء بالنسـبة لتوينبي، [ ص: 147 ] أم الفلاسفة الآخرين، أن نظرياتهم تلتقي مع المنظور الإسلامي في المنطلقات الأساسية، والخطوط العريضة، والتوجهات الكبرى.. إنها هنا تتعارض ابتداء.. وهو التـعارض، الذي قد يمتد من الطول إلى الطول، حيث لا لقاء أسـاسا بين الإلهي والوضـعي، إنما نود التأكيد هنا، على أنه كلما حدث وأن تم لقاء أو تشابه ما بين مفردة من مفردات تلك التفاسير وبين المنظور الإسـلامي، فإن ذلك يجيء تأكيدا لمصداقية هذا المنظور، وقدرته على الكشـف المبكر.. بما أنه صادر عن الله سبحانه، ذي العلم المطلق والذي لا يخفى عليه شيء، في الأرض، ولا في السماء.

            إن الخبرة البشرية، في أنشطتها الوضعية، ليست شرا كلها، وهي ليست نسيجا من الأخطاء، التي يتخللها صواب، كما قد يخيل للبعض.. إنها محاولة للكشف، قد تصل وقد لا تصـل.. وهي عندما تصل، تمنح العقل البشـري في العالم إضـاءة جديدة للمسيرة التاريخية والتشكل الحضاري. فإذا حدث وأن جاء هذا الكشف مطابقا للمعطيات القرآنية، وحاول امرؤ ما أن يؤشر عليه، فليس معنى ذلك إحالة تلك المعطيات الإلهية على كشوف الوضعيين واستجداء الرضا والقبول من أصحابها، والآية الكريمة تقول: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (فصلت:53).

            وإلا فإنه لبدهي، بالنسبة للمسلم على الأقل، سبق القرآن في الزمن، على هذه النظريات، ومصدره الإلهي، ذو العلم المطلق، ولن تكون كل [ ص: 148 ] الموافقات، التي تجيء فيما بعد، صادرة عن الجهد الوضعي، بأكثر من تأشيرات تبين للناس يوما بعد آخر، وأكثر فأكثر، مصداقية هذا الدين.

            أما أخطاء هذه النظريات الوضعية، وتناقضاتها، ومطباتها، فإننا نجد قبالتها، وبالسهولة، والتدفق نفسه، شواهد القرآن، التي تدين، وترفض، وتستبعد والتي تقدم، أو هي قدمت، منذ قرون متطاولة، البدائل التي تتميز بثباتها، وصدقها، وديمومتها.. ولقد وقفنا طويلا، عند نماذج عديدة، من هذا التعارض في كتاب «التفسير الإسلامي للتاريخ».

            وهكذا فإن دعاة «أسلمة التاريخ» يقيمون شواهد على صدق مقارباتهم بما قدمه المؤرخون المحدثـون من نظريات في تفسـير التـاريخ، ولكنهم بالطبع لا يقرون بسـيادة المناهج الوضعية في فهم التاريخ بشكل مجمل وإن اتفقت مع بعض نصوص الكتاب الحكيم.

            ولذلك يشـير عماد الدين خليل إلى أن المنـاهج التـاريخيـة الوضـعية قد تداعت الواحدة تلو الأخرى، وإن وجدت الأتباع والمعجبين في بعض سني عمرها، وهذا كما يرى خليل إنما هو قدر الله الذي يمضي أبدا، لكي يبطل، ويمحو، كل ما لا ينسجم، ويتوافق، ويصدر عن علم الله: ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون (الأنفال: 8).

            يقول الجابري: إن «الفلاسفة المسلمين قبل ابن خلدون أنفسهم اهتموا بالتأليف بين الحقيقتين القرآنية والعقلية، لكن هذا أدى باللاهوت الإسلامي إلى استيعاب العقلانية اليونانية أكثر من الانغماس في العقلانية الإسلامية، [ ص: 149 ] والاهتمام بالدين والفلسـفة أثرا في جميع الفروع الإسـلامية، القانون، التـاريخ، وما أشـبه. وهذا النهج في القرن الرابـع عشـر وهو الذي له أصـوله الدينية في القرآن والأحاديث النبوية وأصـوله الفلسفية في العقلانية اليـونانية، قد بلغ منتهاه» [1] .

            فإن القرآن الكريم قد اسـتفز العقل العربي في المحاور الأربـعة التالية والتي نرى أنها كانت، في مجملها، المشكاة التي أضاءت الطريق لمسيرة علم التاريخ العربي - الإسلامي:

            1- فكرة المصير في القرآن الكريم، وأثرها في الوعي التاريخي.

            2- البعد الحضاري في القرآن الكريم، فكرة استخلاف الله - تعالى - للإنسان في الأرض، وأثره في الوعي التاريخي.

            3- أخبار الأمم الماضـية في القرآن الكريم، وأثرها في الوعي التـاريخي عند العرب المسلمين.

            4- فكرة وحدة الرسالات السماوية في القرآن الكريم، وأثرها في الوعي التاريخي عند العرب المسلمين.

            إن القصـص التي جاءت في القرآن الكريم هدفها العـبرة والاتـعاظ، وقد حفز هذا المسلمين على التساؤل عن تلك الأمم ومواطنها، وأزمانها وصلتها ببعضها أو بالعرب؛ ولأن أكثرها كانت من العرب كعاد وثمود، [ ص: 150 ] وأصحاب شعيب... إلخ، فقد كان القرآن المحفز لدراسة التاريخ العربي القديم، إلى جانب التاريخ العام، في حين كان الحديث النبوي الشريف المحفز للاهتمام بجمع وتدوين التاريخ الإسلامي [2] .

            وهكذا، فقد عنينا في هذا الفصل ببيان تصورات المؤرخين من أنصار «أسلمة التاريخ»، حيث أرادوا التأكيد على فكرة أن القرآن الكريم قد تضمن إشارات تاريخية أساسية في فهم سنن الكون وقوانينه، وفي إدراك معانى اسـتيعاب الواقعة التاريخية، وأمر بالنظر فيها وتدبرها.. وما آيات القصـص إلا مصـدر رئيس لمعرفة هذه الأحكام.. وقد هاجم بعض هـؤلاء بعضـا ممن جعل القرآن مادة للنقد والدرس مع إغفال قدسيته القاطعة، فردوا كل قياس لموضـوعات قصصـه، أو بحث مستند على منطق علمي حديث، وإن كان بعضا من هذا الهجوم لا يقوم على مقاربة علمية مقبولة.

            لقد أوغل أنصـار «أسـلمة التاريـخ» -كما لاحظنا في إشـارات عماد الدين خليل-في الانتصار للحقائق الكونية التي وصفتها قصص القرآن، وفي الإلماع إلى وصول مؤرخين وضعيين محدثين إلى قوانين إنسانية تاريخية تحدث عنها القرآن سلفا.



            [ ص: 151 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية