الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            - ثانيا: المعنى الاصطلاحي:

            قبل التطرق إلى اصطلاح العلماء للفظة تاريخ، يجب التنبيه إلى نقطة مهمة جدا، وهي أن لفظة تاريخ قد استعملت في الاصطلاح على نحوين اثنين، فتارة تسـتعمل ويراد بها مضـمون ومحتوى المادة التـاريخية، وتـارة أخرى تسـتعمل ويراد بها طريقـة التـعامل مع هذه المادة.

            وهذه الازدواجية في الاستعمال أدت إلى خلط في فهم معنى اللفظ. ولرفع هذا التناقض والتداخل في استعمال اللفظ لأكثر من معنى؛ وجب علينا تحديد المصطلحات لتخطي الإطلالات اللا علمية، والخروج من المفاهيم المتداخلة. كما أن التاريخ، اصطلاحا، قد تنوعت تعاريفه وتعددت، بتنوع ثقافات ومشارب، وأهواء وانتماءات، ومذاهب الذين ولجوا موضوعه.

            [ ص: 21 ] ففي الاصطلاح: التعريف بالوقت الذي تضبط به الأحوال، من مولد الرواة والأئمة ووفاة وصحة وعقل وبدن ورحلة وحج وحفظ وضبط وتوثيق وتجريح وما أشبه هذا مما مرجعه الفحص عن أحوالهم في ابتدائهم وحالهم واستقبالهم، ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة، من ظهور ملمة، وتجديد فرض، وخليفة، ووزير وغزوة، وملحمة، وحرب، وفتح بلد، وانتزاعه من متغلب عليه، وانتقال دولة، وربما يتوسع فيه لبدء الخلق وقصص الأنبياء وغير ذلك من الأمور الماضية، وأحوال القيامة، أو دونها كبناء جامع، أو مدرسة، أو قنطرة أو رصيف ونحوها، مما يعم الانتفاع به مما هو شائع مشـاهد، أو خفي سماوي، كجراد وكسوف وخسوف، أو أرضي كزلزلة وحريق وسيل وطوفان وقحط... وغيرها من الآيات العظام والعجائب الجسام.. والحاصل إنه فن يبحث عن وقائع الزمان من حيثية التعيين والتوقيت بل عما كان في العالم [1] .

            وهو تعيين وقت لينسب إليه زمان مطلقا، سواء كان قد مضى أو حاضرا أو سيأتي..

            وقيل التـاريخ تعريف الوقت بإسـناد إلى حدوث أمر شـائع كوقوع حـادثة هائلة من طوفان أو زلزلة عظيمة ونحوهما من الآيات السماوية [ ص: 22 ] والعـلامات الأرضـية.. وقـيل التـاريخ مدة معلومة بين حـدوث أمر ظاهر وبين أوقات حوادث

            [2] .

            يعرف ابن خلدون حقيقة التاريخ، أنه خبر عن الاجتماع الإنسـاني، الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التقلبات للبشر، بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال [3] .

            فالتاريخ هو دراسة للتطور البشري في جميع جوانبه، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والروحية، أيا كانت معالم هذا التطور وظواهره واتجاهـاته.. ويرى بعضهم أن كلمة تاريخ تعني مجموعة الحـوادث، [ ص: 23 ] التي ظهرت في تـاريخ البشـرية، كما أنها تعني الإلمام بتـلك الأحـداث.. بينما يذكر آخرون أن التاريخ يشتمل على المعلومات، التي يمكن معرفتها عن نشأة الكون كله بما يحويه من أجرام وكواكب [4] .

            والتاريخ بصورة مبسطة هو علم الخبر، أو هو منهجية استقاء الخبر من مصادر وثيقة ودقيقة.. وفي القاموس المعاصر والكتابات المحدثة تجابهنا ألفاظ متعددة من المصدر (أرخ) تشير إلى معنى التاريخ وفكرته وصورته، مثل التاريخية والتأرخة وغيرهما [5] .

            أن لفظة تاريخ تطلق على ثلاثة معان:

            الأول: لفظ التاريخ يطلق من باب التجوز في الاستعمال على مجرى الحوادث الفعلي، والمقصود هنا من أوجدوا التاريخ وليس من كتبوه أو واضعي الكتب التاريخية، ولكن نعني الرجال الذين غيروا بأعمالهم مجرى شؤون العالم مثل الإسكندر، وقيصر، ونابليون.

            والمعنى الثاني للفظة تاريخ هو: التدوين القصصي لمجرى شؤون العالم، كله أو بعضه.. واستعمال التاريخ في الدلالة على هذا المعنى اسـتعمال مسـتقيم لا غبار عليه، وهو أم استعمالاته، فلدينا تواريخ إنجلترا، وفرنسا، وألمانيا، [ ص: 24 ] وتواريخ العلوم والفنون والأدب، ولدينا تواريخ أي شيء أو كل تطور على مر الزمن وترك وراءه آثـار تطوره.. ومع أن هذا الاسـتعمال شـائع ومسـتقيم، فإنه قد يفضـي إلى شـيء من اللبس نلحظه وراء كل مناقشـة موضـوعها: هل التاريخ علم أم فن؟

            المفهوم الثالث للتاريخ، هو: أن هذا اللفظ في أصل معناه واشتقاقه الدقيق يفيد البحث، أو التعلم بواسطة البحث، أو المعرفة، التي يتوصل إليها عن طريق البحث.. فالمعنى غير الظاهر هنا هو الاستقصاء والبحث وطلب الحقيقة، وبهذا المعنى يكون التاريخ علما.. فإذا قلنا أي أنواع العلوم هو؟ أجبنا أنه ليس كالفلك علم معاينة مباشرة، ولا الكيمياء علم تجربة واختبار، ولكنه نقد وتحليل.. وأقرب العلوم الطبيعية شبها به الجيولوجيا، فكما أن الجيولوجي يدرس الأرض كما هي الآن ليعلم، إذا أمكنه ذلك، كيف صارت إلى حالتها الحاضرة، فكذلك المؤرخ يدرس الآثار المتخلفة عن الماضي ليفسر بواسطتها وبقدر إمكانه ظاهرة الحاضر..

            وكما أن الجيولوجي يجد مادته الأسـاسية فيما بقي من نفايات الطبيعة من أدلة قليلة تثبـت التطورات الجيـولوجية القـديمة، فكـذلك المـؤرخ يعتـمد في معرفة الوقائع الماضية على آثار مادية أو سجلات أو تقاليد، هذه الآثار [ ص: 25 ] والسجلات والتقاليد هي الحقائق الملموسة الحاضرة التي ينصب عليها عمل المؤرخ، وهي مادة علمه [6] .

            لقد حملت كلمة (تاريخ) جملة من المعاني، يمكن تصويرها فيما يلي:

            1- سير الزمن والأحداث، أي التطور التاريخي.

            2- تاريخ الرجال (BIOGRAPHY).

            3- عملية التدوين التاريخي أو التاريخ ووصف التطور وتحليله HISTORIOGRAPHY))

            4- علم التاريخ والمعرفة به، وكتب التاريخ وما فيها.

            5- تحديد زمن الواقعة أو الحادث باليوم والشهر والسنة [7] .

            وأكثر المؤرخين يرون أن التاريخ هو بحث واستقصاء الماضي وحوادثه وكل ما يتعلق بالإنسان منذ بدأ يترك آثاره على الأرض، والمؤرخ هو الذي يدرس آثار الماضي وآثار الإنسان حتى يفهم حاضره ويدرك أبعاد المستقبل.. والتاريخ هو كذلك العلاقة الجدلية بين الإنسان والزمن [8] .

            فكلمة تاريخ تدل على الإعلام بالوقت مضافا إليه ما وقع في ذلك الوقت من حوادث وأخبـار.. والتاريخ بهذا المعني اللغوي قديم، وتمتد جذوره [ ص: 26 ] إلى بداية البشرية، وقد عرفه الإغريق القدامى باسم (استوريا) وهي كلمة تدل على البحث عن الأشياء الجديرة بالمعرفة [9] .

            وقد وضع ابن خلدون بابا عن فضـل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلمام لما يعرض للمؤرخين من المغالط، ومن ضمن ما جاء فيه: «اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم» [10] .

            وقال الحـافظ أبـو الفرج بن الجـوزي: إن فوائـد التـاريخ جليـلة أهمهـا: إن ذكرت سيرة حازم ووصفت عاقبة حاله أفادت حسن التدبير واستعمال الحزم، أو إن ذكرت سيرة مفرط ووصفت عاقبته أفادت الخوف من التفريط، فيـتـأدب المتسـلط، ويـعتـبر المتـذكر، ويـتضمن ذلك شـحـذ صـوارم العقـول، ويكون روضـة للمتـنزه في المنقول.. وفائـدة ثانية أن يطلع بذلك على عجائب الأمور وتقلبات الزمن، وتصاريف القدر وسـماع الأخبـار.. ونقل عن ابن عمرو بن العلاء قوله لرجل من بـكر بن وائـل: كبر حتى ذهب من لذة المأكل والمشـرب والنكاح، وقد قيل له: «أتحب أن تموت»؟ قال: لا، قيل: فما بقي من لذتك في الدنيا؟ قال: «أسمع العجائب» [11] .

            [ ص: 27 ] ونقل السـخاوي أيضا عن العز أبي الحسـن علي بن محمد بن الأثير كلاما قريبا من هذا يمدح فيه علم التـاريخ، ويذكر فضله، ويبين منافعه الدنيوية والآخروية [12] .

            وقد عقد السيوطي بابا في مؤلفه «الشماريخ في علم التاريخ» يذكر فيه فوائد هذا العلم والنظر فيه، ومنها: معرفة تاريخ الرجال، وانقضاء المدد، ووفيات الشيوخ ومواليدهم، ومعرفة كذب الكذابين وصدق الصادقين، مشيرا إلى أن القرآن قد أمر بتبين ذلك وتمحيصه وتحقيقه [13] .

            وتدوين التـاريخ أقدم عن العرب والمسـلمين، يتعداهم إلى اليـونان، وهذا مسـلم به معروف، والنظرة اليونانية لهذا العلم لم تقف عند كتابته فحسب فقد تطورت في أشعار «هوميروس»، وقد استلهم رؤية أن التاريخ مصدر للاتعاظ والاعتبار من الآثار للاستفادة منه في الحاضر، إلى التناول العلمي على يد «هيرودت» و«ثيوكيديرس».. واتجه «هيرودت» أن يعقد التاريخ على أنه كشف لطبيعة الحدث وأسبابه بطريقة استقرائية، فلم يعد التاريخ هو التاريخ الديني فحسب وإنما برز الجانب الإنساني وملاحظة أنشطته وأعماله وآثارها [14] .

            [ ص: 28 ] إن «هيرودت» (أبو التاريخ) ، كما يشار إليه، ربما يكون أول من حقق الشروط العلمية في تاريخه، (HISTORIA) التي تعني البحث والاستقصاء للدلالة على هذا العلم، فيصبح التاريخ، نظرا لذلك، عملية تفاعلية أو حوارا بين الأحداث التاريخية الحـاضرة وبين الأحداث والوقائـع التي حدثت في الماضي، فعملية التاريخ يمكن وصفها في خاتمة المطاف بأنها: مجموعة من المعارف المحصلة عن طريق منهج وثيق للبحث في نوع معين من الوقائع تتصل بالأحياء من الناس في مجتمع ما خلال توالي الأزمنة في الماضي [15] .

            ويصر عبد الله العروي على عروبة مصطلح التاريخ، فيقول: «إن تأليف التاريخ الإسلامي من إبداع العرب، لقد فشلت المحاولات للعثور على مؤثرات خارجية - يونانية أو فارسية - على غرار ما كشف عنه المنقبون من مؤثرات أجنبية في الفلسـفة وعلم الكلام، ليس التاريـخ الإسـلامي نقلا أو اقتباسا أو استعارة من الغير، إن كلمة «تاريخ» كلمة عربية، والكلمة الأجنبية «أسطوريا» التي كان من الممكن استعارتها، استعملت فعلا، لكن في معنى آخر؛ للتعبير عن القصص الخيالية والميثولوجية، التي لا تخضع لقوانين المراقبة والفحص والتدقيق، كحوادث التاريخ القريبة أو البعيدة» [16] .

            [ ص: 29 ] ويرى قسوم إنه في ضوء مطالعة مجهودات الغربيين في وصف دراسة التاريخ، خاصة التاريخ الإسلامي، وتتبع وملاحظة مجهودات المسلمين في كتابة التاريخ، يمكن الإشارة إلى حقائق أساسية في هذه الناحية، وهي:

            إن فكرة التاريخ قديمة في التصور الإسلامي، وتعبر عن الثقافة القرآنية، التي مهدت للفكر التاريخي، وقد أثر علم الحديث تأثيرا عظيما في تقعيد قواعد هذا العلم ومسيرته، ومصدر الأمر هو الاتفاق في البحث عن الحقيقة بعيدا عن المزيفين وأصحاب الهوى.. إن المسلمين وضعوا مناهج خاصة بهم في قراءة التاريخ تختلف عن المناهج الأخرى، وهذا ما سنعرض له لاحقا..

            غير أن قسوم لا يتفق كثيرا مع شاكر مصطفي، الذي كاد أن يصف التاريخ بأنه علم عربي إسلامي، انطلاقا من الميراث الضخم للمسلمين في هذا الباب.. وقد يكون الأمر في إجماله لم يجانب الحقيقة، وهي عناية المسلمين العظمي بالتـاريخ والذي تضمن كتابات أخرى تداخلت مع هذا العلم نحو علم الاجتماع وغيره، لكنه أيضا من المبالغة غير العلمية اعتبار أن التاريخ علم إسـلامي صـرف [17] .

            - الجدل حول التاريخ:

            [ ص: 30 ] ناقش بعض المفكرين والتاريخيين مسألة: هل التاريخ يعد علما؟ ومن هؤلاء «هرنشو»، حيث أشار إلى ما ذكره «ج. ب. بيوري» أحد أشهر المؤرخين الأكاديميين بالجامعات البريطانية من أن «التاريخ علم لا أكثر ولا أقل».

            ولذلك فيما عرضه «هرنشو» أن الأكاديميين على خلاف حول ذلك، فالفلاسـفة الطبيعيـون قد عملوا على إثبات أن التاريـخ دون العلم بكثير، أما علماء الإنسانيات والأدب فقد اجتهدوا في إثبات أنه فوق العلم بكثير، فالفلاسفة الطبيعيون يحتجون لرأيهم بأن مادة التاريخ تختلف عن مادة العلوم، التي يشتغلون بها من حيث كونها ثابتة وليست قابلة للتجديد، وأنه ليس من الميسور أن تعاين التاريخ معاينة مباشرة، وأن الاختبار والتجربة أمران غير ممكنين في الدراسـة التاريخية، وأن كل واقعة تاريخية مسـلم بها هي قائمة بذاتها، وليس بالإمكان تصور ظروف يتكرر فيها وقوعها، ولا يمكن أن نصل في التاريخ إلى شيء من قبيل التعميمات أو القوانين العلمية.

            ومادة التاريخ فوق كل ذلك مركبة تركيبا لا نهاية له، وأنه ليس ثمة اتفاق بين المؤرخين على ما هو هام من الوقائع وما ليس بهام، وأن عنصر المصادفة يهدم كل تقدير سـابق، ويحبط كل محاولة ترمي إلى تخمين الحوادث والإخبـار بها قبل وقوعها، يقول «و. س. جيقز»: من السخيف أن نفكر في التاريخ على أنه علم بالمعنى الصحيح.

            أما رجال الأدب فيوضحون في حوارهم أن التاريخ، سـواء أكان علما أم غير ذلك، فهو لا ريب فن من الفنون، وأن العلم، بالغا ما بلغ، لا يعطينا [ ص: 31 ] من التاريخ سـوى البقايا الميتة، وأنه لا مندوحة من خيال الشـاعر ليبعث في هذه البقايا الحياة والحركة.

            لقد أشار أحدهم إلى أن العلم يعني اجتماع طائفة كبيرة من الوقائع المتشـابهة بحيث تنشـأ عن اجتماعها وحدة عامة على هيئة مبدأ أو قانون يمكننا على وجه اليقين من التنبؤ بحدوث وقائع مشـابهة للوقائـع المذكورة في ظروف معينة، ولذلك فإن صاحب هذا الرأي فهو يرى أن التاريخ لا يمكن أن يكون علما.

            لكن «هرنشـو» يرى أن العلم يمكن أن يعرف بصورة أكثر بسـاطة ويسـرا، فيقال: إن العلم هو المعرفة المنظمة المبوبة المقننة. ويكفي في إسـناد صفة العلم إلى موضوع من الموضوعات أن يمضي المرء في دراسته مع صرف شيء من عنايته إلى توخي الحقيقة، وأن يكون فهما ذكيا في البـحث عن كل ما يتصل به من الحقائق، وأن يؤسس على حكم ناقد لا يحتكم إلى هوى النفس، بهذه الكيفية يصعب علينا أن نتعجل إسقاط التاريخ أو أي موضوع أخر من العلوم [18] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية