الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            3-1 القصص القرآني.. استكمال للبعد التوحيدي في القرآن:

            يعبر القصص القرآني عن رباط وثيق بين كتاب الله عز وجل المـحكم، القرآن الكريم، وبين الكتب السـماوية خاصة الكتـاب المقدس، وهذا يعزز معنى التواصل التوحيدي، ويعطي دلالات أكيدة في استمرارية التبليغ حتى الدين الخاتم.. ولقد اتجه جانب من الكتاب المسلمين إلى محاولة توضيح أبعاد الصلة بين القصص في القرآن الكريم والروايات التاريخية في الكتاب المقدس.

            ويتصور محمد دراز أن ليس كل ما في القرآن مما يستنبطه العقل والتفكير أو مما يدركه الوجدان والشعور، إنما في القرآن جانب كبير من المعاني النقلية البحتة، التي لا مجال فيها للاستنباط، وأن ما قصه القرآن من أنباء ما ومن قد سبق، وقصص الأنبياء والأمم الماضية ومجمل ما جرى من حوادث في ديار ثمود وعاد ونوح وأشـباه ذلك، جاء دقيقا محكم التوصـيف في السـياق القرآني، على ذات الحال للقصص المذكورة في الكتاب المقدس، وهو يلاحظ هنا قصة نوح، عليه السلام، في القرآن، حيث ذكر أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وفي سفر التكوين من التوراة أنه عاش تسعمائة وخمسين [ ص: 83 ] سنة، وكذلك قصة أهل الكهف عند أهل الكتاب أنهم لبثوا في كفهم ثلاثمائة سنة شمسية، وفي القرآن الكريم أنهم لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا (الكهف:25). وهذه السنون التسع هي فرق ما بين عدد السنين الشمسية والقمرية، وقد أشار الزجاج إلى مثل هذا [1] .

            ويـرى مالك بن نبي في عمـله «الظـاهرة القـرآنيـة» في فصـل عقـده في العلاقة بين القرآن والكتاب المقدس عند النصارى واليهود، أن بعض ما ورد من أوجه شبه في قصص القرآن وما جاء من قصص في التوراة والإنجيل الحاليين يأتي ضمن وجود القرآن في الدورة التوحيدية، فالقرآن يجيء مكملا ومصـححا لمعلومات جاءت في الكتـاب المقدس، ولكن رغما عن هذا التشـابه والقرابة إلى الكتب السـابقة، فإن القرآن الكريم يحتفظ بصورته الخاصة في كل فصل من فصول الفكرة التوحيدية، على حسب ما يظن مالك بن نبي.

            وتقوم الفكرة التوحيدية على فهم التوحيد، حيث يعرض حقيقته الغيبية الخاصـة بطريقة أكثر مطابـقة للعقل وأكثر تدقيقا وفي اتجـاه أوفر روحيـة، وفي المقابل فإن الكتب العبرية تكشـف عن بعض التشـبيه، وألوهية قومية، أما المسيحية فقد أوجدت عقيدة دينية ثالوثية قائمة على سر الثالوث الأقدس، بينما قرر الوحي القرآني أن الفكرة التوحيدية هي أن الله واحد مخالف للحوادث، ومن الضروري الإشارة إلى تساؤل كبير حول مدى تأثر الفلسفات [ ص: 84 ] الدينية المسيحية بمنطق القرآن، فإلى أي مدى كانت الثورات في الفكر المسيحي منذ الحركة «الألبية ALBIGEOIS» وحتى حركة الإصلاح، محتسبة بوصفها نتائج مباشرة أو غير مباشرة للفهم الميتافيزيقي في القرآن.. أما بالنسبة لنهاية العالم ويوم الحساب والجنة والنار، فإن هذا الجانب يظل محدودا في الخبرة العبرية لأنها كانت تركز على مسألة التنظيم الاجتماعي، ولكن الإنجيل يبدو أكثر عناية والتفاتا إلى هذه الناحية، أما القرآن الكريم، فإنه يظهر في هذا الإطار الأخروي ظهورا مؤثرا من حيث العناية به ووصف مشاهد القيامة [2] .

            إن الإعلام بالغيب في القصص يبدو مقصدا جليا في نقل هذه الروايات التاريخية عن الأمم والشعوب والجماعات السابقة، قال تعالى: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون (يوسف:102) ، وقال تعالى: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون (آل عمران: 44) ، وقال: وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين (القصص:44).

            ويشير بعض من عني بدراسة فلسفة قصص القرآن الكريم إلى إن الهدف من القصص القرآني ليس كتابة تأريخ هذه القصص، وإنما الهدف هو العبر للاستفادة مما حل بالأمم السابقة، والتثبيت لفؤاد النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 85 ] فيعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيه إخوانه من الأنبياء من العنت وبغي الكافرين.. كما يشير هؤلاء أيضا إلى أن هذه القصص هي حق صراح، قال تعالى: نزل عليك الكتاب بالحق (آل عمران:3).

            ولذلك اعترض بعض العلماء على الادعاء القائـل بأن القصرص التـاريخي في القـرآن الكريم إنما هو قصـص أدبي أولا وأخيرا، وأن الأساس الذي كان يلحظه القرآن دائما في نفوس المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم إنما هو القدرة على التأثير، وأن مقابلة القصص القرآني وأحداثه وشخصياته بالحقائق التاريخية يكشف عن مفارقات كبيرة تفتح المجال لمن يريدون أن ينالوا من القرآن وأن يشـككوا في صحته وفي صـدق النبي صلى الله عليه وسلم، وينسـب هذا الادعـاء إلى محمـد خـلف الله صـاحـب كتـاب «الفـن القصـصي في القرآن الكريم» [3] .

            كذلك فإن آيات القرآن أوضحت أن هذا القصص لم يكن مما تواضع على معرفتـه النـاس في بلاد العـرب في ذلك الوقـت، فلم يـحاج خصـوم النبي صلى الله عليه وسلم محمدا، عليه الصلاة والسلام، بأنهم يعلمون تلك القصص أو يجدونها في تراثهم الثقافي، وإنما كانوا ليهتبلون مثل هذه الفرصة ليدحضوا قوة القرآن وثباته وأصالته [4] .

            [ ص: 86 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية