الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            3-5 القصة القرآنية.. والنماذج التاريخية:

            وصف كتاب الله عز وجل القصص القرآني بأنها حق ووقائع صادقة أصابت جماعات خلت من الأمم: تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين (البقرة:252) ، نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون (القصص:3) ، ذلك أن من القصص البشري ما يحكي واقعا ويصور حقائق ثبت وجودها.

            ربما عاب متأخرة المفكرين الإسلاميين أو حتى بعض متقدميه أن تفسير بعض من هذه القصص مما خالط الحقيقة به الوهم فشابها زخرف القول وباطله ونسج الخيال نتيجة للمنقولات والإسرائيليات. أما أصل القصص الواردة في القرآن الكريم فكما هو واضح أنها كبقية كتاب الله عز وجل أسست على الحق والصدق، والواقع، ولم يكن للخيال أو الوهم أو المبالغة مدخل إليها، قال تعالى: إن هذا لهو القصص الحق (آل عمران:62).

            فهو قصة وقعت في غابر الأزمان بأشخاصها وأحداثها وزمانها ومكانها وملابساتها ثم يجئ القرآن الكريم فيقصها أحسن القصص، أسلوبا محكما، [ ص: 127 ] وعرضا معجزا، قال تعالى: وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا (الإسراء:105).

            وربما وقع الخلط في التفسـير، أي في كلام البشر عند بعض المفسرين عند تصديهم لدراسة قصص القرآن، وبعض دراسات الاستشراق ربما شككت في بعض قصص القرآن اعتمادا على مناهج نقد التاريخ المتعارف عليها.

            كانت دراسة محمد أحمد خلف الله صـاحب كتاب «الفن القصـصي في القرآن الكـريم»، إحدى أكثـر الدراسـات التي تعرضـت للنقد والطعن في نتائـجها. ويبدو أن كثـيرين لم يرق لهم ما انتـهى إليه خلف الله، حتى أن بعضهم أخرجه من مقتضيات الدين، وربما اعتقد بعضهم أن صاحب هذه الأطروحة قد خلط بين معطيات القصة في الاصطلاح الأدبي الحديث وبين طبيعة القصص القرآني.. فنقطة الخطأ الأولى في منهج المؤلف تكمن في هذا الخلط بين القصص باصطلاحه القرآني الأصيل وبين القصص باصطلاحه الأدبي الحديث، وإنه لمن التعسف أن نحمل كلمات أي نص قديم ظلالا جديدة لا تصدر عنها ولا تمت إليها بصلة.

            اعتمد خلف الله في زعمه بوجود القصة الأسطورية في القرآن الكريم على آيات من القرآن الكريم تبين أن مشركي مكة وصفوا قصص القرآن الكريم بأنه أساطير الأولين، ومن ذلك:

            1- قوله تعالى: ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين (الأنعام:25).

            [ ص: 128 ] 2- قوله تعالى: وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين (الأنفال:31).

            3- قوله تعالى: وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما (الفرقان:5-6).

            4- قوله تعالى: وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين (النحل:24).

            وأنت ترى أن صاحب «الفن القصصي في القرآن الكريم» حينما أراد أن يستدل على دعواه بهذه الآيات قطع بين الآية وما قبلها وما بعدها من آيات تتصل بموضوع المقولة التي يقولها الكفار في القرآن بأنه أساطير الأولين.

            ثم إن هذه المقولة: أساطير الأولين لا يقصدون منها القصص القرآني وإنما يقصدون القرآن الكريم كله، بل إنهم قالوا في القرآن ما هو أكثر من هذا، فلم اقتصر على هذه المقولة؟ قالوا في القرآن: إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر (المدثر:24-25) ، وقالوا في النبي صلى الله عليه وسلم: إنما يعلمه بشر (النحل:103) ، وقالوا في القرآن الكريم: بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون (الأنبياء:5).

            [ ص: 129 ] وفي الواقع إن القـرآن الكريم تبتعد قصـصه عن الخيـالات التي تبـدو في أكثر الأساطير الشعبية لدى الأمم الأخرى، كأساطير اليونان والهنود والفراعنـة، فلم يكن العرب يعـرفون الأسـطورة بهذا المعنى حتى يحمـل عليه ما حكاه القرآن عنهم» [1] .

            وقد أشـار بعض من رد على أقوال أطروحة خلف الله إلى قوله تعالى: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (فصلت:41-42).

            فإذا كان المضـمون التـاريخي في القصـص القرآني - كما يزعم-باطل في الحقيقة ونفس الأمر، ألا يكون هذا معارض معارضة صـريحة لمضـمون هذه الآية، التي تنفي إمكان أن يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه؟

            لقد أشرنا كذلك في مقدمة هذه الدراسة إلى آراء محمد عابد الجابري حول ما كتبه محمد خلف الله، فيمكن الرجوع إلى ذلك.

            وبالنظر في الآيات السـابقة – وأمثـالها كثير في القـرآن – نجـد أنها قد أثبتت أن القرآن الكريم كله حق نزل من عند الله تعالى، وآياته كلها حق، وقصصـه كله حق؛ لأن الله تـعالى لا يقص إلا بالحق، وهو يقص علينا قصـة أهل الكهف بالحق، ونبأ موسى وفرعون بالحق، ووحيه كله حق، وكتابه [ ص: 130 ] حق، لا يصـل إليه الافتراء والكذب بأي وجه من الوجـوه، كما قال تعالى: ـ وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين (يونس:37).

            ويرى بعضهم شارحا إمكانية أن تكون أسانيد القرآن التاريخية بها من العلمية والواقعية ما يجعله أصدق كتاب في الصنعة التاريخية: إن الباحث المنصف – على فرض أنه كذلك– لو نظر إلى القرآن الكريم وجرده من كل قداسة دينية، ثم نظر إليه كمصدر تاريخي بحت، فماذا يجد؟؟ يجد أننا لا نملك كتابا آخر، ولا أثرا تاريخيا آخر في تاريخ البشرية كلها توافرت له أسباب التحقيق العلمي البحتة كما توفرت لهذا الكتاب.

            فإنه من البدهي، أننا لا نملك في إثبات صحة الحوادث، التي تحدث عنها القرآن أو عدم صحتها، إلا وسيلتين اثنتين، ولكن واحدة منهما ليست قطعية وليس لها من قوة الثبوت ما للقرآن.

            إحدى الوسيلتين اللتين في أيدينا: الأسانيد التاريخية الأخرى، فإذا نحن جردنا القرآن من قداسته - كما قلت – فإنه ككتاب تاريخي يكون أقوى إسنادا من الوجهة العلمية البحتة من كل مرجع تاريخي آخر في الوجود، فراوي هذا الكتاب هو محمد بن عبد الله، وهو رجل يعترف خصومه قديما وحديثا بأنه رجل صادق... وقد جمع هذا الكتاب بطريقة علمية لا يطعن فيها أحد إلا أفاك متعصب. ومثل هذا التحقيق العلمي لم يتهيأ لكتاب آخر، لا من الكتب المقدسة ولا من الكتب التاريخية، ولا من الآثار التاريخية أيضا، فالكتب [ ص: 131 ] المقدسة الأخرى قد انقضـت فترات طويلة بين حياة أصـحابها وعصر تدوينها، ولم ترو بالإسناد الذي روي به القرآن.. والكتب التاريخية والآثار التاريخية لا ترتفع فوق مسـتوى الشبهات، وليسـت هناك حادثة تاريخية واحدة في تاريخ البشـرية تعد يقينا علميا خالصا. إذن لا تجوز محاكمة القرآن – ككتاب تاريخي بحت – إلى أي كتاب تاريخي آخر أو أي سند تاريخي ليس له من قوة الثبوت ما لكتاب القرآن.

            والوسـيلة الأخـرى، التي بين أيدينا هي العقل، ليس هنـاك تردد البتة في القول: إن احترام العقل البشرى ذاته يوجب عليه أن يفسح للمجهول مجاله، وأن يحسب له حسابه، لا عن طريق الإيمان الديني، ولكن عن طريق التفكير العقلي، وإن العقل البشري ليسقط احترامه حين يدعي أنه يعلم كل شيء، وهو لا يعلم نفسه ولا يدري كيف يدرك المدركات!

            التالي السابق


            الخدمات العلمية