الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            2- الخطاب القرآني:

            2-1 معنى ومفهوم الخطاب:

            يرتبط مفهوم الخطاب بدراسات تحليل النصوص.. فالخطاب وسيلة تعبيرية تتيح للإنسان التعايش الجمعي، الذي يمكنه من مشاركة الآخرين، والاندماج معهم، فهو فعالية اجتماعية قادرة على اسـتيعاب الأنسـاق الحضارية وتصويبها وتطويرها. ولذلك مصطلح «الخطاب» مرتبط تمام الارتباط بفعل التواصل، حيث تكون في كل عملية خطابية عناصر عديدة للتواصل تتمثل في المخاطبين، وسياق الخطاب ومراميه، ومع ذلك فإن مصطلح «الخطاب» هو أيضا من المصطلحات التي تكونت حولها ضبابية في تعريفها، بمعنى أنه لا يوجد تعريف أو صيغة تعريفية مانعة جامعة لمصطلح «الخطاب».. فالخطـاب، باعتباره مفهوما، يظل يقبل التـأويل في حقول معرفيـة مختلفة، [ ص: 61 ] لذا فإن كل حقل يبني تعريفه والخصائص المحددة له وفقا لحاجاته والمناهج المستخدمة في توضيح ودراسة هذا الحقل [1] .

            ومن الناحية اللغوية، ووفقا لما أشار إليه ابن منظور، فإن الخطاب والمخاطبة مراجعة الكلام، وقد خاطبك بالكلام مخاطبة وخطابا [2] ، ويتضمن ذلك المعنى التواصلي والإبلاغي بين الأفراد، وبهذا المعنى ورد مصطلح الخطاب في القرآن الكريم في قوله تعالى: فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب (ص:23) ، وقـوله تـعالى: وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب (ص:20).

            إن فصل الخطاب هنا من الصـفات التي أسـبغها الله سـبحانه وتـعالى على نبيه داود، عليه السـلام، وهي سـمة يختـلف فيها مطلق جنس البشـر عن المخلوقات الأخرى مثل الجمادات والنباتات وجملة الحيوانات، لكن البشر أيضا مختلفون فيما بينهم في مراتب القـدرة على التعبير في الخطـاب، فمنهم من يتعذر عليه إيراد الكلام المرتب المنظم فيكون مختلط الكلام مضطرب [ ص: 62 ] القول، ومنهم من يتعذر عليه الترتيب في بعض الوجوه، ومنهم من يكون قادرا على ضبط المعنى والتعبير إلى أقصى الغايات [3] .

            وفي اللغة أيضا، الخطاب هو توجيه الكلام نحو (الغير) للإفهام، والخطاب محاورة وجـدال ومحاجـة الكلام، وخطب أي وعظ وقرأ على الحاضرين [4] ، قال تعالى: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما (الفرقان:63).

            وفي المعجم الوسـيط: خطب النـاس وفيهم وعليهم خطابـة وخطبـة، أي ألقى عليهم خطبة، وخاطبه مخاطبة وخطابا، أي كالمه وحدثه، ووجه إليه كلاما، ويقال: خاطبه في الأمر أي حدثه بشأنه [5] .

            وفي القاموس المحيط: الخطب: هو الأمر العظيم والأمر الذي تقع فيه المخاطبة، وخطب الخطيب خطبة، والخطبة الكلام المنثور المسجع، والمخاطبة مراجعة الكلام [6] .

            [ ص: 63 ] وبنفس هذه الكيفية أو قريب منها نلحظ أن معنى الخطاب اللغوي متقارب في المعاجم ومتشابه، فلذلك نجد الفراهيدي يتحدث عن ذات المعنى، وهو أن الخطب هو سبب الأمر الذي تقع فيه المخاطبة، والخطاب هو أيضا مراجعة الكلام أي تبادله بين اثنين [7] .

            وفي الاصطلاح جاء تعبير الخطاب في التراث الإسلامي مرتبطا بعلم الأصول، يقول علي بن عبد الكافي السبكي: «فحصل في الخطاب قولان أحدهما أنه الكلام، وهو ما تضمن نسـبة إسـنادية، والثاني أنه أخـص منـه وهو ما وجه من الكلام نحو الغير لإفادته» [8] .

            ويقول علي بن محمد الآمدي: «اللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه» [9] .

            وقد وافقهما بدر الدين الزركشي إلى حد كبير فيما ذهبا إليه، وذلك أنه عرف الخطاب بأنه: «الكلام المقصود منه إفهام من هو متهيئ للفهم.. وعرفه قوم بأنه: ما يقصد به الإفهام أعم من أن يكون من قصد متهيئا أم لا» [10] .

            [ ص: 64 ] لقد كان لمفهوم الخطاب، من حيث تعدد منطلقاته وفقا لتنوع ارتباطاته بأكثر من حقل معرفي، وجود واضح في تصورات التراث الإسلامي، لكن على الرغم من وجود بذرة هذا المفهوم في العقل الإسلامي القديم، إلا أن المفكرين المسلمين المحدثين والمعاصرين قد استعاضوا عن إقامة الصلة بين المفهوم القديم والمفهوم القائم، بإيجاد مفهوم جديد لا صلة له بتراث الأمة وإنما أخذ من الفكر الغربي، لقد استبدل المفكرون العرب والمسلمون المعاصرون النواة الإسلامية القديمة في التراث لمفهوم الخطاب بالمفهوم الغربي للخطاب (DISCOURSE) ، وأصبح هذا المفهوم المنقول هو المتداول حاليا، وهو كذلك مختلف حوله [11] .

            اختلف الغربيون كذلك في توضيح مفهوم الخطاب، ولدينا عدد من الأسماء لمن تحدثوا في الموضوع من أمثال «باختين BAKHTINE و«فوكو FOUKOU» و«دومنيك مانغنو DOMINIK MANGANOU» و«إميل بنفنيست E. BENVENISTE».. اعتبر «باختين» أن الخطاب حدث مجتمعي، لا يرتبط فقط بالفرد، الذي يخاطب، فخبرة صاحب الخطاب الداخلية تتداخل مع الحدود الاجتماعية، ولذلك فبنية الخطاب بنية اجتماعية [12] .

            [ ص: 65 ] أما المفكر الفرنسي «ميشال فوكو» فقد برزت رؤيته من خلال مؤلفاته التي عكست تصورا عميقا ومحددا لمفهوم الخطاب، فقد اتخذ الخطاب عنده أبعادا «ابستمولوجية» معرفية مستقلة، ارتبطت هذه الأبعاد بوصفه مفهوما وثيق الصلة بالإنسان وبمؤسساته داخل المجتمع، وهكذا ارتبطت رؤية «فوكو» للخطاب بالميدان العام لمجموع المنطوقات أو مجموعة متميزة من العبارات بوصفها تنتمي إلى تشكيلة خطابية محددة تتركب من شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي تبرز فيها الكيفية التي ينتج فيها الكلام باعتباره خطابا ينطوي على الهيمنة والمخاطر في الوقت ذاته، ومن هنا أصبح مفهوم الخطاب لدى «فوكو» عبارة عن شرط وجود ونظام ومجموعة علاقات تجد في الخطاب مركزية، وهو كيان خاص متماسك بذاته ومترابط [13] .

            أما المفكر الروسي «ميخائيل باختين M.BAKHTIN» فقد فسر الخطاب ضمن المنهج الاجتماعي في اللسانيات، وفسره تفسيرا سوسيولوجيا اجتماعيا، فالخطاب لديه دائم الارتباط بالعنصر الخارجي وبالمجتمع عامة، ويربط بين الظواهر اللغوية والظواهر الاجتماعية، فيتصل الخطاب اتصالا وثيقا بالعيش الاجتماعي.. إن دراسة الخطاب عند «باختين» تعني دراسة عمليات التلفظ اللغوي في سـياقاتها الاجتماعية، مما يعني أن السياق الاجتماعي جزء لا ينفصل عن أي فعل لغوي، وأن معنى كل تلفظ يتضمن وضع المتكلم [ ص: 66 ] بوصفه ذاتا اجتماعية تنعكس على غيرها، فكل خطاب بمثابة فضاء أو عملية تتأسس فيها العلاقات بين الأفراد، ويتم إنتاج موضوعات المعرفة، وتتولد موضوعات القيم، وذلك على نحو يميز كل خطاب عن غيره [14] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية