الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            4- الحاجة الداخلية:

            الدعوة لتبني مفهوم حول «مراجعة التاريخ»:

            تأتي (الدعوة لتبني مفهوم حول مراجعة التاريخ) بمعنى النقد والنظر والتأمل وإعادة التفكير.. وقد اتخذت هنا كلمة «مراجعة» لمعطيات ومخرجات الحوادث التاريخية في التاريخ الإسلامي وفقا لرؤية منهجية جديدة، وقد ابتعدت عن كلمة «إعادة كتـابة التاريـخ» التي استـخدمها عماد الدين خليـل، إذ أن هذه اللفظـة ربما لم تؤد المعنى بمفاهيمه المراد منها إيصـالها لمن يقرأ ويـدرس.. وابتعدت أيضـا عن لفظة «تجديد التاريخ» التي استخدمها عمر فروخ، وأظن أن الكلمات هذه جميعها، تقريبا، تحمل مضمونا شبيها ببعضه إلى الحد البعيد، أما مصطلح «إعادة قراءة التاريخ» فهو يشبه مفهوم «المراجعات» ويقترب منه وليس بعيدا عنه.

            [ ص: 237 ] ومن الواضح أن مفهوم إعادة صياغة أفكار جديدة حول التاريخ الإسلامي يمكن أن يكون عملا تاريخيا عاديا في إطار الكتابة التاريخية وفي سياق العمل التاريخي؛ لأن المؤرخ حينما يقدم عمله فإنه يجنح في بعض الأحيان إلى دبج تصوراته بظلال من رؤيته العلمية الخاصة وحججه التي يسوقها وبراهينه التي تدعم تصوره، وقد يكون بعضها مخالفا أو مناقضا لكتب التاريخ الأولى ولما جاء به الأقدمون، وفي هذه الدائرة يأتي العمل التاريخي بأدلته وأدواته وتعليلاته وشروحه، فقد يقدم جديدا، وقد يصحح مغلوطا، وقد يعدل فكرة، كل ذلك في حيز مناهج التاريـخ ونظمه وانطلاقا من مدارسـه العلمية، وليس ثمة بأس أن يرى بعض العاملين في الحقل التاريخي أن بعضا من المذاهب التاريخية الوضعية الحديثة ربما هي غير ملائمة لكتابة تاريخ المسلمين أو غير دقيقة في الأخذ بمجامع تصورات الحياة الإسلامية.

            أما أطروحة عماد الدين خليل حول ذلك، وغيره من علمائـنا الأجلاء حول «إعادة قراءة التـاريخ»، إنما جاء عرضها بما يشـبه إيجاد مدرسـة جديـدة في الكتـابـات التـاريخيـة، وليس هـذا مستهجنا أو غريبـا، وذلك بغض الطـرف أن النظرية أو المقاربة قد تعتريها بعض الإشكالات أم لا.. فقد قدم خليل أدلته اسـتنادا على مفكرين مسلمين سابقين، عبروا عن عدم رضائهم عن الرواية التـاريخيـة في كثـير من الأحـيـان، وذلك ابـتـداء من الطبـري ثـم ابـن العـربي ثـم ابن خلدون وغيرهم.. وقد وجدنا عند المؤرخين العرب المعاصرين وعند غيرهم اهتماما برفض بعض الروايات التاريخية لسبب أو لآخر.

            [ ص: 238 ] لكن، من الضروري كذلك الإشارة هنا إلى أن بعض اتجاهات عرض التاريخ الإسلامي ومراجعته نحت إلى القيام بعملية دفاعية منظمة عن التاريخ الإسلامي، وليس هذا مستنكرا كذلك إن التزم فيه المؤرخ بأصول المنهج التاريخي، ولم تكن الدوافع تنهض وتقوم في هذا الشـأن على الرغبة في الدفاع عن التاريخ الإسـلامي فحسب، ويكون لدينا في نهاية الأمر أحداث للتاريخ الإسلامي خالصة من كل عيب وشائبة.. وجلي أن هذه لم تكن يوما وظيفة المؤرخ.

            لذلك، نحن نلحظ أن تداخلا عظيما يقع في بعض فكر المشتغلين بالهموم الإسلامية والناظرين في أحوال الأمة المسلمة عندما تصل ركائبهم إلى محطة تاريخ الإسلام، فهؤلاء لا يضعون حدا فاصلا بين ماهية الإسلام وماهية التاريخ الإسلامي أو تاريخ المسلمين في جميع مراحله، وكنا قد ألمعنا كذلك إلى أن ألوان التفكير هذه تنبع من عوامل عديدة، أبرزها الصراع السياسي في التاريخ الإسلامي، وإرادة استقرار الذهنية المسلمة على صورة مثالية لتاريخ المجتمع المسلم، خاصة في عهوده الأولى.

            يجمل خليل دوافع «إعادة قراءة التاريخ الإسلامي» فيما يلي:

            1- أن المؤلفات التاريخية، القديمة والحديثة، يغيب عنها الهدف والرؤية، ويقابل ذلك فوضى وارتجال وتخبط كانت ولا تزال تعاني منها هذه المؤلفات.

            2- غياب الحس النقدي، أو عدم حضوره في معظم الأعمال التاريخية، على خلاف ما كان يحدث في ساحة المعارف الإسلامية الأخرى وخاصة علم الحديث والمنطق والفلسفة، ويقابل ذلك استسلام مؤرخين كبار إلى قبول الخبر المكذوب والخرافي.

            [ ص: 239 ] 3- طغيان النزعة التجميعية، التي جعلت المؤرخين القدامى يقبلون كل خبر ورواية على حساب المنهج التاريخي.

            4- فقدان الأسلوب التركيبي، الذي يجمع الوقائع التاريخية ذات النسق الواحد لتحليلها ومنحها المعنى والمغزى.

            5- التأثيرات الذاتية وغير الموضوعية على المعطى التاريخي بسبب الأهواء والظنون والمصـالح والتحزبـات، وقد أدى ذلك إلى التزييف والتزوير في مجرى الرواية التاريخية [1] .

            يتحدث عمر فروخ عن أسـس عملية، ضمن ما أطلق عليه مسـمى «تجديد التاريخ»، ويعتقد أن من أبرز هذه الأسس:

            1- تقسـيم الأعصر التاريخية - وقد أشرنا إلى هذا المعنى في كلماتنا السـابقة - تقسيما جديدا ينطبق على تاريخ الحضارة الصحيحة، وفيما يتعلق بتاريخ الإسلام على جهة الخصوص.

            2- إعادة النظر مرة ثانية في عدد من وجوه التاريخ القديم، على الأخص في تاريخ العبرانيين.

            3- تخلية تاريخ الإسلام من الإسرائيليات.

            4- تعريب الأعلام بنقلها من اللفظ الأجنبي، الذي وضعها فيه المؤلفون الغربيون -خاصة الفرنسيون والإنجليز- بحسب قواعد لغتهم، ثم أتى المسلمون [ ص: 240 ] فنقلوا عنهم ولم يغيروا، والصواب أن تثبت تلك الألفاظ بلفظ أهلها، سواء أكانوا من البابليين أو الكنعانيين أو الإغريق وغيرهم أو أن تجرى على الصيغ العربية.

            5- ترك الأحداث المفردة عند التدوين، والتركيز على الأحداث التي تركت أثرا حضاريا باقيا [2] .

            لم تـكن الدعـوة إلى إعادة إدراك التـاريخ وقراءة حقائـقه دعوة قـائمة في المجتمعات العلمية الإسلامية السـنية فحسب، بل هي أشد منه قوة وفاعلية في مجتمعات المذهب الشيعي خاصة، فهم يعتقدون أن تاريخهم لقي تشـويها متعمدا، نلاحظ هذا فيما كتبه محسن باقر القزويني، حيث يرى أن كتابات الطبري وابن الأثير والمسعودي هي مجرد أخبار وليست تاريخا، فهي مادة خاضعة للتحليل والبحث عن الدلائل، ورأى أن تسامح العلماء في إسناد الروايات الإخبارية قاد إلى تزييف التاريخ [3] .

            عبـرت اتجـاهـات عديـدة معاصـرة، في كتابـة التاريـخ الإسـلامي، عن مواقف تؤمن بفكرة تقديم مراجـعات حول بناء التـاريخ الإسـلامي وحقائقـه.. وهي، كما أوضحنا، تغلب مسـالك محددة في إعادة فهم التاريخ الإسـلامي، ربما بعضها عروبي قومي، أو نزعات إسلامية جرت مجرى الدفاع عن [ ص: 241 ] تاريخ الإسـلام مطلقا، ولكل اتجاه مسـالكه وشروحه وأدلته وأسـاليبه، التي أيد بها حجته.

            ويرى فاروق عمر فوزي أن وقائع التاريخ العربي بكافة صوره ومختلف ظواهره خضعت لمعالجات قسرية استندت إلى تفسيرات متنوعة، فضاعت الحقيقة التاريخية.. وفي ظنه أن (الوظيفة القومية) للتاريخ العربي الإسلامي قد ضاعت، ولذا -على حسب تصوره- تأتي أهمية إعادة كتابة التاريخ القومي.. ويظن كذلك أن التفاسير الشائعة في التاريخ ما تزال تفتقر إلى (التفسير الذاتي) وتعوزها (وجهة النظر العربية) ، وهو يضرب مثلا بما كتب عن (الثورة) العباسية، فالمؤرخون العرب ظلوا متأثرين بالتقويم، الذي أقامه المستشرقون لهذه الثورة، وهو أنها ثورة فارسية، وأن الحكم العباسي قام على أكتاف الفرس.

            ويرى مؤرخ آخر رأي المستشرق «نولدكه» في اعتبار حركة الزنج الإرهابية ثورة رقيق منبوذين، وأن الحركة البابية المجوسية هي انتفاضة ضد التسلط العربي والتعسف الإسلامي (هكذا) ناقلا ذلك عن المستشرق الروسي «إبراهيموف»، دون احتياط أو توقف أو إعادة نظر، ولقد أضحت الفرضيات الاسـتشراقية، التي لا تسـتند إلى روايات التاريخ الموضـوعية حقائق مسلم بها في بعض الكتابات العربية منذ أن تبناها مؤرخون عرب وشاعت في الأوساط الثقافية العربية.. ولذلك فإن فوزي يعتقد أن التاريخ الإسلامي قد امتلأ نقولا عن: [ ص: 242 ] «ولهاوزن» و«فلوتن» و«نولدكه» و«رينان»، بينما المصادر الإسلامية القديمة متاحة ويمكن النظر إليها [4] .

            يشير الفقيه والعالم محمد سعيد رمضان البوطي إلى ذات التصور عند مناقشته لكتاب «التاريخ العباسي» لشاكر مصطفى، ويرى أنه أيضا قد وقع أسيرا لآراء المستشرقين في مواقفه من العباسيين، ويمضي في ذات التفسير الذي يصور أن غير العرب الذين كانوا موالي لدى العرب قد قادهم ما وقع عليهم من ظلم العرب الأمويين إلى إعلان دعوتهم، لكن البوطي يناقش الأفكار الواردة عن شاكر وفقا لأسلوب لا يخلو من الحماسة الفطرية نحو الدفاع عن الإسلام والدفاع عن الدولة الأمويـة وحتى عن العرب بصـورة عامة، فهو لا يقبل بما جاء في رسـالة شـاكر، في الغالب لاعتماده على كتابات استشراقيه لدى «فان فلوتن» و«فون كريمر» [5] .

            والحقيقة أن كثيرا من المؤرخين المعاصرين باتوا لا يقبلون بهذا التعميم، الذي تدمغ به الدعوة العباسية من أنها دعوة فارسية المنشأ والأصل، والمعروف أن هذه الدعوة قد قامت على أكتاف قبيلة خزاعة العربية، وإن كان مركزها في خراسان، وأن قائدها الروحي كان قائما في بلاد الشام، وقد أشارت بعض الكتابات التاريخية القديمة، وإن كان بعضها لم يكن معروفا في السابق، إلى مثل هذا [6] .

            [ ص: 243 ] لدينا أيضا رؤية عمر فروخ حول تجديد التاريخ والتي برزت في مؤلفه الموسوم بتجديد التاريخ في تعليله وتدوينه، وإعادة النظر في التاريخ.

            4-1 استخدام مناهج المحدثين في نقد الرواية التاريخية:

            نلاحظ أن بعض الفقهاء ممن لهم عناية بتاريخ الإسلام قد اهتموا بإظهار أهمية اسـتخدام المؤرخين المسـلمين للمناهج الحديثية في الحكم على صحة الواقـعة التاريخيـة؛ ويرون أنه بينما عني المحـدثون عناية فائقة بشـروط الصـحة في الحديث النبوي أهملت الدراسات التاريخية العناية بهذه الشروط، حتى أن الفقيه عبد الله الحمد يدعو أقسـام التاريخ إلى أن (تدخل موادا في علم مصطلح التـاريخ والجرح والتعديل) ذلك لأن المؤرخـين القدامى عملوا على جمع الروايـات دون نقدها، وينبـغي - كما يقول عبد الله خلف- على المؤرخين المحدثين أن لا يكرروا ذلك.

            [ ص: 244 ] فقد نبه محب الدين الخطيب إلى أهمية نقد الأسانيد في التاريخ الإسلامي، وزعم أنه لا يمكن الانتفاع بتاريخ الطبري إلا بالرجوع إلى تراجم رواته في كتب الجرح والتعديل، الذي هو لازمة - أي الجرح والتعديل- من لوازم الاشتغال بالتاريخ الإسلامي [7] .

            فقد نبه محب الدين الخطيب إلى أهمية نقد الأسانيد في التاريخ الإسلامي، وزعم أنه لا يمكن الانتفاع بتاريخ الطبري إلا بالرجوع إلى تراجم رواته في كتب الجرح والتعديل، الذي هو لازمة -أي الجرح والتعديل- من لوازم الاشتغال بالتاريخ الإسلامي.. ومهمة السند أو الإسناد في الرواية التاريخية هي تصحيح النصـوص والأخبار، ومحاربة الوضع والكذب في هذه الرواية، ولم يعد الإسـناد في مرحلة ما مقتصرا على الحديث النبوي، وإنما شاع في علوم أخرى مثل التفسير والأدب والتاريخ أيضا، حتى أنه صار يحتل الصفة الغالبة على منهجية تدوين العلوم الإسلامية المختلفة.. وفي مجال التاريخ، حافظ عليه علماء هذا الباب في التدوين، سواء في السيرة النبوية أو في الأخبار التاريخية، كما فعل أبان بن عثمان وعروة بن الزبير والزهري وخليفة بن خياط وأبو زرعة الدمشقي والطبري وغيرهم.. والإسناد المتصل الصحيح خاصية تنفرد بها الأمة الإسلامية في مجال البحث العلمي.. وفي الإسناد، يتم التثبت من أمانة الرواة وضبطهم وبيان عدالتهم وحسن تحملهم للخبر [8] .

            لذلك يقول ابن سيرين: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم»[9] .

            [ ص: 245 ] وقد قدم المؤرخ المعروف أكرم ضياء العمري نموذجا عمليا في بناء الرواية التاريخية على أساس ضوابط رواية الحديث، وذلك من خلال دراسته عن فترة الخلافة الراشدة، التي يرى أنها امتداد لحياة النبي صلى الله عليه وسلم نظرا لتمسكها بذات القيم والأخلاق، ويقول: إنه تمسك بمناهج المحدثين عند التثبت من صحة التاريخ إذا تعلق الأمر بالعقيدة والشريعة، أما الأخبار التي تتناول الفتوحات وتعيين القضاة والموظفين فإنها لا تقتضي إعمال المنهج النقدي الحديثي فيها، كما يظن، بل يكفي اتفاق الإخباريين واختلافهم عليها، وسلامتها من التناقض والشذوذ، وسلامة القصد عند الرواة لئلا يميلوا بالأخبار نحو خدمة اتجاهاتهم العقدية والسياسية.. ويرجح أن هذا المنهج هو عينه المنهج الذي اتخذه السلف، حيث لم يشترطوا التشدد في صحة الرواية الخبرية باستخدام ذات الأدوات الحديثية [10] .

            الواقع، إن ما قرره ابن خلدون وظنه، ومع وعيـه بأهمية أسـاليب الجرح والتعديل في النقد التاريخي، لكنه ظل يعتقد أن الكتـابة التاريخية العربية في عصره لم تسـتطع منهجيا الوصول إلى الخبر الصـحيح.. فإذا ظل الخبر قائما في دائرة علم الرجـال ولم يتجـاوزه أو يتقـدم على ذلك وظل يدور حول الظـاهر ويتجـزأ إلى أبـواب وفنون معزولة عن لباب الموضوع، فإن صـحة الخبر لن تجـدي دونما تحليل أو تمحيص في إطار علم الاجتماع الإنسـاني، حيث يقول ابن خلدون:

            [ ص: 246 ] «إن معرفة طبائـع العمران هو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صـدقها من كذبها، وهو سـابق على التمحيص بالرواة.. ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع.. وأما إذا كان ذلك مسـتحيلا فـلا فائـدة للنظر في التعديـل والتجريـح.. ولقد عـد أهل النـظر من المطـاعن في الخبر اسـتحالة مدلـول اللفظ وتأويله بما لا يقبـله العقـل، وإنما التعديل والتجريح هو المعتبر في صـحة الأخبار الشـرعية؛ لأن معظمها تكاليف إنشائية أوجب الشـارع العمل بها حتى حصـل الظن بصدقها. وسبيل صـحة الظن الثقة بالرواة والعدالة والضـبط. أما الأخبـار عن الواقعات، فلابد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة. لذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه، وصار فيها ذلك أهم من التعديل ومقدما عليه»

            [11] .

            والاعتماد على الرواية، كما أوضحنا، كان منهج علماء المسلمين في الزمن الأول، فهي أمارة على اليقين، في التاريخ على وجه الخصوص، فمعرفة حدث تاريخي يمكن أن تكون جديرة بالتصديق فقط إذا قررت بواسطة سلسلة من السند المتصل بشاهد عيان جدير أن يوثق به [12] .

            [ ص: 247 ] ويمثل أسد رستم نموذجا للفكر التاريخي، الذي يجمع بين مناهج الإسناد وعلم الرجال والمحدثين في التاريخ العربي وبين قواعد البحث العلمي، التي وضعت في أوربا في القرن التاسع عشر.. وقد أوضح عمله في هذا الجانب مظان الاتفاق بين الأسلوبين في الحكم على التاريخ [13] .

            وقد كانت محاولته بحق جهدا عظيما يستحق الثناء؛ لما فيه من المعاني المفردة والصدقية والتوازن والحرص على مناهج التراث.. ومن أوضح معالم حرصه هذا أنه استخدام مصطلحات جديدة كلية في الكتابة التاريخية، استمدها من التراث العلمي الإسـلامي، ولم يقف فقط عند هذا الاسـتمداد بل سدد وقارب وتأمل مجددا في الفكر التاريخي القائم حينها، دون نظرة مستلبة مأخوذة بالكتابات الغربية، وكذلك من دون أن يكون انكفائيا يزحف مترسما خطى الأقدمين دون نظر أو تجديد.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية