الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            - التقابلية الحضارية.. في كتابات عماد الدين خليل:

            إن خليل يضع تصوره في تشخيص الحالة الإسلامية ضمن إطار محدد، يمكن تسميته، إذا صحت لنا التسمية: بـ «الرؤية التقابلية التاريخية»، أي الحضارة الإسلامية والواقع الإسـلامي الراهن في مقابل الحضـارة الغربية اليوم، بما تنتجه من علوم وفكر وثقافة ومعرفة... إلى آخر ذلك، فيجـري القياس ويقيم موازنته في مسائل النهوض والعودة والبعث الإسلامي، لكنه في المقابل يركز على وصف تاريخ الحضـارة الإسـلامية وما قدمتـه من قيم وفعل حضـاري، وهو يتكلم عن السـبق الحضاري وشروطه ومقاييس نجاحه، ودلالات تحقيقه لغايته، وينتقل بنا إلى فكرة أساسية حول التنافس الحضاري وتحققه، وهو يبني هنا نماذجية واضحة، توضح أن التنافس الحضاري ليس أساسه النقل عن المتفوقين حضاريا، وإنما هو فعل يجب أن يمارس بالعقل والخبرة والتجربة، وأن يصاغ وفقا للعقيدة والرؤية والإيمان الإسلامي، والنقل عن الغرب لن يجعلنا -كما في تصوره - نقف على قدم المساواة مع الحضارة الغربية.. إن العقيدة الإسلامية هي في نظره المحفز والدافع والخصوصية، التي يجب أن نتحلى بها [1] .

            [ ص: 189 ] يقارن خليل حالنا مع حال الأمم الأخرى، مثل اليابان والصين، فهي أمم تسعى وتتطلع إلى الإنجاز الحضاري، وقد اقتبست من الغرب عناصر تفوقه العلمي البحت والتطبيقي التقني مع الحفاظ في نفس الوقت على ملامحها الثقافية المنفردة وفلسـفتها وتميزها، فهي مخلصة لشـخصيتها الحضارية، وهذا - حسب رأيه - يدعونا إلى برمجة علاقتنا بالغرب، إذا أردنا أن نكون أمة لها هويتها [2] .

            إن ما قدمه عماد الدين خليل قريب مما كان يدعو إليه شكيب أرسلان، الذي أوضح أن أمما كثيرة ظلت محافظة على ذاتيتها وهويتها الحضارية تزامنا مع سعيها في الكسب الحضاري المعاصر، فهي لم تقبل أن تمسخ ذاتها، أو تطمس خصـوصيتها بحثا عن كسـب حضـاري، ولم تنقل إلى عالمها كل غث وسمين، كما رأينا في العالم الإسلامي دعوات، في القرن الماضي، تدعو إلى الانسـلاخ من الثقافة الإسلامية، والانتساب إلى الحضارة الغربية جملة، بدعوى التجاور والانتماء ووحدة العقل الإنساني [3] .

            يقول عماد الدين خليل: «ما نراه ونلمسه في واقع تاريخنا الحضاري المعاصر يشير إلى تفكك جوانب عديدة في شخصيتنا الحضارية وذوبانها، وإلى ضياع [ ص: 190 ] الكثير من ملامحنـا المتميزة، وطغيان قيم الغرب وفلسـفته ورؤيتـه على الكثير من قيمنا وعقائدنا» [4] .

            لدى عماد الدين خليل اهتمام خاص بتاريخ المقاومة الإسلامية ضد الغزاة والطـامعين، ولقد برز ذلك ضـمن كتاباته التـاريخية، فلقد صـنف مؤلفا أفرد فيه صفحات مقدرة لبحث هذا الجانب، حيث ركز على مقاومة المدن الإسلامية وتصديها للغزاة، وقد اعتبر أن هذه القضية ضمن المسائل المهمة في التاريخ الإسلامي، ولعل اهتمامه بهذه الناحية مصدره استقراء للتاريخ الحديث للمسلمين، إذ تعرضت المنطقة الإسلامية وما زالت تتعرض لجحافل من الغزاة والغزو بكافة صوره وأشكاله.

            لقد بين أن أوضح قيمة تمثلها المقاومة هي الثبات على العقيدة والإيمان الفعال.. لقد وصفت دراساته أو بعضا منها مقاومة حلب للصليبين ومقاومة الموصل للمغول، ومقاومة مدينة ماردين في الجزيرة الفراتية للغزو التيموري، ويشير إلى أن هذه نماذج فحسب، فالمدن الإسلامية التي وقفت إزاء الهجمات الخارجية كثيرة، وقد تمكنت بالأخذ بالأسباب من دحر الغزاة وكسر شوكتهم، أو على الأقل وقف تدفقهم واندفاعهم وعرقلة حركتهم، وهو يظن أيضا أن هذا مجال خصب للدراسات التاريخية [5] .

            [ ص: 191 ] وكما أشرنا، فإن خليل دائما يريد أن يربط بين التاريخ والواقع المعاصر، فجانب من رؤيته التاريخية تستدعي الواقع، وتستلهم فهم التاريخ من خلال ملاحظة تسـلسل الأحـداث إلى الظرف الحاضر، فهو في كل الأوقات يحدث عن أن الإيمان الجاد المعزز بالرؤية الواعية والتخطيط المدروس كفيل بأن يغير مجرى التاريخ، واليوم فإن القوى المعارضة للإسلام تقف مجتمعة لمحاربته [6] .

            يعتقد خليل أن التاريخ الإسلامي بحاجة إلى المزيد من الكتابة فيه بحس نقدي، خاصة أن هناك الكثير من القضايا والمسائل ما تزال عالقة ولم يكشف النقاب عنها، هذا هو الشأن الأبرز في العناية بالتاريخ وليس الرد على الآخرين والسعي للكشف عن الأخطاء لديهم، فذلك في نظره أمر ثانوي، وهذه العملية قد سماها «بناء التاريخ» [7] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية