الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            3-3 بعض مواقف المستشرقين من القصص القرآني:

            لقد اعتبر بعض المستشرقين أن خلو القصة القرآنية من التفاصيل مع عدم تحديد الزمان والمكان وعدم اتفاق بعضها مع ما جاء في كتب العهد القديم والجديـد، مما يـجعل القصـة القرآنية – حسـب زعمهم- مما لا يمكن إدراجه في الخبر التاريخي.. إن المراد والمقصود الأول هو الاعتبار والاتعاظ فيما أرادته [ ص: 89 ] الآيـات القـرآنيـة وسـعت إليـه، ولبيـان سـنن الاجتـماع الإنسـاني، قـال الله تعـالى: سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون (غافر:85).

            إن خطـاب القرآن هو خطـاب كلي عـام، يريد طرح الفـكرة العامة دون تخصيص أو تجزئة، وهذا الشأن قائم عند بعض المؤرخين، الذين يريدون أن يحصـلوا على مغـزى من بـعض ما يكتـب فلا يسـتغرق في التفاصـيل دون العموميات، أما فيما يتصل بما يقال من الخلاف بين ما نجده في القرآن والكتب السماوية السابقة من تفاصيل في بعض قصص الأنبياء، إنما فيه تأكيد وتنبيه إلى أن القرآن كتاب الله، وقد نقل إلينا عن طريق التواتر، الذي لا يقبل تشـكيكا أو ردا أو تفنيدا لصـحة وروده، فالتواتر حصن من أن يقع البهتان في كلام الله، وما خالف كتاب الله فيه من الباطل ما فيه؛ لأنه عرف عن التاريخ القديم، والكتب القديمة عدم تحري الدقة والضبط بحيث تكون حجة تعتمد في هذا المجال، وهذه الكتب الموجـودة اليـوم، قد خـلت من التـواتر أو المعرفة بسيرة رجال سندها [1] .

            ويشـير مالك بن نبي إلى حقيقة عدم التماثل في ثبوتية وقطعية الورود بين القرآن الكريم والتوراة والإنجيل، فبينما يمتاز القرآن بميزة أنه تنقل عبر أربعة عشر قرنا دون تعرضه لتحريف، لم يكن هذا حال العهد القديم، الذي لم تعترف له بالصحة الدراسات النقدية للشراح المحدثين، وكذلك العهد الجديد لا يحظى [ ص: 90 ] بإظهار الثقة الكاملة حول تمام صحته، وعلى هذا فإن شكوكا كثيرة تحوم حول تاريخية الوثائق اليهودية والمسيحية [2] .

            وفيما يتصل بالعلاقة بين القرآن والكتاب المقدس فنشير إلى ما عبر عنه مالك بن نبي بـدورة التوحيـد، الذي يمثل القرآن جانبـا منها، فإن التشـابه بين القرآن والكتـاب المقدس أمر قائـم، فيما يشـبه القرابـة ولحـمة الـدم، وإن كانت هذه القرابة تسم القرآن بطابعها الخاص.

            فعلاوة على ما ذكرنا مما أصاب العهدين القديم والجديد من صنوف التحور والتحول والتحريف، فإن القرآن يأتي مصححا لمعلومات الكتاب المقدس، كما أن القرآن الكريم يقدم صورته الخاصة في فصل من فصول فكرة التوحيد، ثم يعرض مالك بن نبي إلى توضيح أوجه التشابه والاختلاف بين الكتابين ضمن شـواهد محددة في قصـص الأنبياء نحو قصة يوسف، ويعرض ابن نبي في تناوله لمسألة التشابه بين الكتابين إلى فرضيتين، ويهتم كذلك بإيراد آراء بعض المستشرقين، الذين درسوا هذه القضية ضمن مسائل بحثهم.

            إن أصل هاتين الفرضيتين أساسهما الاعتراضات، التي ذكرها هؤلاء المستشرقون، الفرضية الأولى هي أن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يكون قد تشبع بالفكرة التوحيدية لا شعوريا، وربما تمثلها في عبقريته الخاصة.

            أما الفرضية الثانية هي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تعلم الكتب المقدسـة اليهودية والمسـيحية تعلما مباشـرا ثم اسـتخدم هذا العلم فيما بعد في بناء القرآن.

            [ ص: 91 ] وللرد على هاتين الفرضيتين، يورد ابن نبي قول الله تعالى: تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين (هود:49).. والآية توضح أن هذا الجانب من العلم كان غائبا في مجتمع الجاهلية، وفيها تأكيد كذلك أن البيئة العربية كانت خالية من وجود تاريخ توحيدي.. وعندما درس الآباء اليسـوعيون مدى إسـهام شـعراء النصرانية في الجاهلية انتهت نتائجهم وخلصت إلى غير ما يصبون إليه.. وأكد هذه الناحية أيضا غياب وجود أية ترجمة عربية للكتاب المقدس في تلك الآونة، حيث لم يتسن وضع واحدة إلا لاحقا في القرن الرابع الهجري، أما الفرضـية الثـانية حول التعلم المباشـر لنبي صلى الله عليه وسلم، لا يقوم أيضا ما يدعم هذا الفرض أو يؤكده، بل على العكس تشير الدلائل إلى ما يخالف ذلك [3] .

            ويوضح محمد عبد الله دراز في كتابه «النبأ العظيم» أن المعرفة والعلم بأسـماء بعض أنبياء الأمم السابقة وأخبارهم وبمجمل ما جرى من حوادث التدمير في ديار عاد وثمود وطوفان نوح وأشباه ذلك، لا يمكن الجزم أن جميع ذلك لم يصل إلى الأمة العربية أو تتصل به على نحو ما، ولكن ما يمكن قوله: إن ما تستحيل المعرفة به هو الإخبار والإنباء بالتفاصيل الدقيقة، التي ورد بعضها في بعض القصص القرآني، وذكرتها الكتب المقدسة السابقة، فمثلا في قصة نوح [ ص: 92 ] عليه السـلام، جاء في القرآن أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسـين عاما، وفي سفر التكوين من التوراة أنه عاش تسعمائة وخمسين سنة، وفي قصة أصحاب الكهف عند أهل الكتاب أنهم لبثوا في كفهم ثلاثمائة سنة شمسية.. وفي القرآن أنهم لبثوا في كفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، وهذه السـنون التسع هي فرق ما بين عدد السنين الشمسية والقمرية، إن المعرفة الدقيقة هذه أصلها مصدر خارجي غير بشري، فلقد كان ذلك العلم تحولا استثنائيا في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث لم تكن لديه معرفة سابقة به أو بما يشبهه [4] .

            يتجه محمد عبده اتجـاها آخرا في هذه المسـألة، حيث يظن أن القصـة لا تمثل هدفـا أصـيلا من أهـداف القرآن، فلم يكن القـرآن كتـابا تاريخيـا، بل إنما كان مراده أخذ العبرة والعظة، يقول محمد عبده: «يظن كثير من الناس الآن، كما ظن كثير قبلهم، أن القصص التي جاءت في القرآن يجب أن تتفق مع ما جاء في كتب بني إسرائيل المعروفة عند النصارى بالعهد العتيق أو كتب التاريخ القديمة، وليس القـرآن تاريخا ولا قصـصا، بل هو هـداية وموعظـة، فلا يذكر قصة لبيان تاريخ حدوثها ولا لأجل التفكه أو الإحاطة بتفاصيلها إنما يذكر ما يذكره لأجل العبرة».

            ويؤكد في موضـع آخر أن القـرآن لا يسـلك مسـالك كتب التـاريخ في سرد التفاصـيل والعناية بالجزئيات؛ لأن ثمرة القرآن وقيمته في الهدايـة [ ص: 93 ] والإرشـاد.. إن ما صنعه القرآن هو الحق في تقرير الحقائق بصورة كلية ليست مجالا للاختلاف، وأما ما عداه من الكتب السماوية الأخرى فقد تغيرت أسانيدها ودخلها التحريف والتغيير، فعلينا -كما يقول- وقد ظهرت الآية ووضحت السبل ألا نلتفت إلى روايات الغابرين في تلك القصص، ولا نعد مخالفتها للقرآن شبهة نهتم بكشـفها، فإن قيل: إن قصص العهدين العتيق والجديد، التي يسمى مجموعها «الكتاب المقدس»، هي من وحي الله شهد لها القرآن وهي تعارض بعض قصصه، قلنا: إن تلك القصص ليس لها أسانيد متواترة متصلة.. ثم يردف القول قولا آخرا: إن القرآن إنما أثبت أن الله أعطى موسى، عليه السلام، التوراة وهي الشريعة، وأن أتباعه قد حفظوا منها نصيبا ونسوا نصيبا، وأنهم حرفوا النصيب الذي أوتوه، وأنه أعطى عيسى، عليه السلام، الإنجيل وهو مواعظ وبشارة، وقال في أتباعه مثل ما قال في اليهود: فنسوا حظا مما ذكروا [5] .

            لقد برزت لدى المستشرقين عدة اتجاهات لربط القصص القرآني بما جاء في العهد القديم، من ذلك مثلا دراسة المستشرق الألماني «هاينزشبييار» حول القصص التوراتي في القرآن، وقد أوضح في مقدمة كتابه أن الدراسات الحديثة عن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم في الغرب قد ألمعت إلى التصورات غير العربية، التي اقتبسها الرسول صلى الله عليه وسلم من غيره، سواء أكان ذلك [ ص: 94 ] في مجال التشريع أو السياسة، وقد قامت تلك الدراسات في ضوء الدراسات النقدية التي وضع أسسها المستشرق المعروف «إجناس جولدزيهر».

            وقد أشار «هاينزشبييار» إلى أن تلك القواعد قد طبقت على معالجة القصص التوراتي في القرآن.. ونلحظ ذلك أيضا في كتابات المستشرق «جايجر» الذي زعم أن قصص العهد القديم تحتل الجانب الأكبر من القرآن، وقد ظلت الكتابات الاستشراقية خلال النصفين الثاني والأول من القرن الثامن والتاسع عشر وهي فترة الحراك الكبير لحركة الاستشراق بكل اللغات الأوربية وفي جل أقطارها، تترى وتتوالى حول هذا الموضوع، وقد كانت هذه الدراسات عرضا شاملا لكل ما يتصل بقصص القرآن الكريم، ومقابلتها بالأديان السماوية والأساطير الشعبية خاصة تلك الموجودة في الأسرة السامية، ابتداء من خلق آدم، عليه السلام، وانتهاء بيونس وأيوب وإلياس [6] .

            يقول الله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق (فصـلت:53). إن وظيـفة المـؤمن هي البـحث عن هذه الآيـات المنتشـرة في الآفاق، حتى يكتشـف حقائـق الوجود. ولذلك يقـول الله تعالى في آيـة أخرى: إنما يخشى الله من عباده العلماء (فاطر:28). فالعلماء هم أهل الخشية، لعلمهم بهذه السنن المطروحة في الآفاق، ولرؤيتهم حقائق الكون وهي تسير وتتجانس مع ما أشار إليه الله سبحانه وتعالى.

            [ ص: 95 ] إن دراسة التاريخ والبحث في السنن الكونية مطلب رباني.. وهو مطلب عقلي أيضا.. فالتـاريخ هو بيت الخـبرة الإنسـانية.. ومن لا يعرف التـاريخ ربما يتعثر، أما من استفاد واتعظ ممن قبله فحري به ألا يجرب التجارب الفاشـلة، وأن يزيد البناء لبنة.. يقول محمد رشـيد رضا في تفسـير «المنار» في قول الله تعالى: فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (آل عمران:137): «فيجـب على الأمـة في مجمـوعـها أن يكون فيها قوم يبينون سنن الله في خلقه، كما فعلوا في غيرها من العلوم والفنون، التي أرشد إليها القرآن بالإجمال، وبينها العلماء بالتفصيل، عملا بإرشاده، كالتوحيد والأصول والفقه.. والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها.. والقرآن يحيل إليها في مواضع كثيرة.. وقد دلنا على مأخذه على أحوال الأمم، إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها».

            التالي السابق


            الخدمات العلمية