الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            3- القصص القرآني والتاريخ:

            بين مفهومي العبرة والسنن التاريخية:

            إن العناية بالقصـص الديني مسـألة قديمة في تاريخ الأديان، خاصـة في الكتاب المقدس، وهي ليست تفصيلا خاصا بالمسلمين وحدهم.. وهذه العناية لا تشمل القراءة التاريخية فحسب، ولكن يمكننا القول:

            إن جزءا مهما من أسباب ظهور علم الآثار كان مصدره سعي علماء الأمم الغربية لاكتشاف وتحديد وإيجاد المواقع، التي ذكرتها نصـوص الكتـاب المقدس، مثل البحث عن كنوز الملك سليمان وغير هذا، رغما عن أن الكتاب المقدس، بعهديه، يشير إليه جانب من الباحثين على أنه قد تعرض للتحريف، مثلا يشـير «مونتيه MONTET» في كتـابه عن تاريخ الكتـاب المقـدس، أن العهد القديم لم تصحح الدراسات النقدية للشراح المحدثين كونه سليما من [ ص: 77 ] الدخيل إلا واحد فقط من كتبه هو كتاب «أرمياء»، وكذلك العهد الجديد، فقد ألغى مجمع أساقفة «نيقية» كثيرا من أخباره، مما زرع الشك حول ما تبقى منه.. إن اتجـاهات نقد المادة العلمية أوضـحت بصـورة كاملة أن الإنجيل قد كتب بعد عصر الحواريين، وبعد المسيح بأكثر من قرن [1] .

            إن معنى القصة أو القصص في اللغة يتضمن معاني التتبع والاستبانة والتفحص، فالقص هو اتباع الأثر، فيقال: خرج فلان قصصا في أثر فلان، والقاص يقص القصـص لإتباعه خبرا بعد خبر وسـوقه الكـلام سـوقا، وفي المعجم الوسيط: قصت الفرس قصا استبان حملها [2] .

            قال الرازي في تفسـير قوله تعالى: إن هذا لهو القصص الحق (آل عمران:62): «والقصص هو مجموع الكلام المشتمل على ما يهدي إلى الدين، ويرشد إلى الحق، ويأمر بطلب النجاة» [3] .

            [ ص: 78 ] وقص أثره أي تتبعه، قال تعالى: فارتدا على آثارهما قصصا (الكهف:64). وكذلك اقتص أثره وتقصص أثره، والقصة: الأمر والحديث. وقد اقتصصت الحديث: رويته على وجهه. وقد قص عليه الخبر قصصا [4] .

            وقد عرف عبد الباسط بلبول، أحد الذين اهتموا بالكتابة عن القصة في القرآن، أن القصـص القرآني هو: «إخبار الله عما حدث للأمم السابقة مع رسلهم، وما حدث بينهم وبين بعضهم، أو بينهم وبين غيرهم، أفرادا وجماعات، من كائنات بشـرية أو غير بشرية، بحق وصدق، للهداية والعظة والعبرة» [5] .

            إن أبرز ما يقدمه القصص القرآني هو البعد الغيبي في إدراك تفاصيل الوحي القصصي، فهو ليس مجرد حكايات أو أساطير من التاريخ ربما صحت أو لم تصح، بل هو غيبيات من الماضي، تتحقق صحتها من معرفة أن مصدرها إلهي ورباني، وهذا ما حاول مالك بن نبي الإشارة إليه حينما تحدث عن قوله تعالى: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (يوسف:3) ، حيث تؤكد هذه الآية على خلو ذهن النبي صلى الله عليه وسلم من قصة يوسف ومعرفتها لولا هذا الوحي الذي يخبره عن واقع جرى قبله بفترة زمنية طويلة [6] .

            [ ص: 79 ] شمل القصص مساحة كبيرة في القرآن، بحيث لا تكاد تخلو منه سورة، وبعض السور استغرق القصص آياتها، مثل «القصص» و«يوسف».. ولم يشر القرآن إلى قصص الأنبياء والمرسلين كافة، قال تعالى: ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما (النساء:164).

            ووصف القرآن القصص به بأنها أحسن القصص، وحسن القصص يتجلى في الحسن الفني والحسن الموضوعي، ويقدم القصص القرآني الدروس والعبر والعظات والدلالات المختلفة، وقد وصف القرآن القصص بأنها القصص الحق. ويرى أحد الباحثين أن المقصد من القصص القرآني هو التفكر والاعتبار، قال تعالى: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب (يوسف:111) ، والاعتبار من عبرة، والعبرة هي الحالة التي يتوصل بها من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد.. ويخلص المؤلف إلى أن أهداف القصص القرآني هي ثلاثة أهداف: شحذ العقول والأفكار، تقديم العظات والعبر، وتثبيت القلوب على الدعوة [7] .

            [ ص: 80 ] ويتساءل عبد الكريم الخطيب: إذا كان القرآن الكريم قد سمى الأحداث والوقائع قصصا، فهل هذه التسمية تتلاقى مع المفهوم الاصطلاحي، ومع المحتوى الفني للقصة، كما تعرف في الآداب الإنسانية، قديما حديثا؟

            ويجيب عن ذلك: أن أصل اشتقاق التسمية يتلاقى مع المفهوم الذي قام عليه أصل التسمية للقصص القرآني، فالقصة مشتقة من القص وهو تتبع الأثر، قال تعالى: وقالت لأخته قصيه (القصص:11).

            ومن هذا قولهم كما أوضحنا: قص الأثر أي نظر فيه، واقتفى آثاره وشواهده، يقال: قصصت أثره واقتصصته وتقصصته، وخرج فلان في أثر فلان قصصا، وفي القرآن: لا تقصص رؤياك على إخوتك (يوسف:5) ، والقصة كما يقول الخطيب إنما هي تتبع أحداثا ماضية واقعة، ومن هنا كانت تسمية الأخبار التي جاء بها القرآن قصصا، مما يدخل في المعنى العام لكلمة خبر أو نبأ، وقد استخدم القرآن الخبر والنبأ بمعنى التحدث عن الماضي، وفرق بينهما، فاستعمل النبأ والأنباء في الإخبار عن الأحداث البعيدة، زمانا ومكانا، في حين استعمل الخبر والأخبار في الكشف عن الوقائع القريبة العهد بالوقوع، قال تعالى: نحن نقص عليك نبأهم بالحق (الكهف: 13) ، ويقول الله تعالى في شأن الأمم الماضية وما وقع فيها من مثلات: ذلك من أنباء القرى نقصه عليك … (هود:100).. وفي الخبر والأخبار يقول سبحانه [ ص: 81 ] وتعالى مخاطبا المؤمنين: ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم (محمد:31) [8] .

            ويرى عبد الكريم زيدان أن الحكمة مما قصه المولى عز وجل في كتابه العزيز تظهر في وجوه عديدة، أبرزها:

            الاعتبار من أخبار المدافعة بين أهل الحق والباطل، فقد قص الكتاب أخبار الأنبياء وما أصابهم وما أصاب اتباعهم المؤمنين من الأذى في سبيل الله، ثم إن الله نصرهم وجعل العاقبة الحسنة لهم، وفي ذلك عبرة للمؤمنين، قال تعالى: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب (يوسف:111).

            كما أن في قصص القرآن بيان لسنن الله في خلقه من الأمم والجماعات والأفراد، وهي سنن جرت على الماضين وتجري على اللاحقين، قال الله تعالى: وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين (هود:120).

            كذلك في قصص القرآن بيان لمناهج الأنبياء في الدعوة إلى الله والتزامهم وصـبرهم عليها.. وقصـص القرآن نماذج للمؤمنين الصابرين وبيان سـلوكهم [ ص: 82 ] مع الذين هم على خصومة مع منهج الله.. وفي قصص القرآن توضح الجبلة البشرية وسلوك الإنسان وغرائزه [9] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية