الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            3-4/4 اتجاهات بعض الأكاديميين والمهتمين بدراسة السنن:

            لقد أوضحنا في الفصل التمهيدي من هذه الدراسة جانبا من العناية بدراسة تفسير التاريخ في ضوء القرآن والسنة، والمنطلقات الإسـلامية خاصة في دراسة التاريخ الإسلامي، الذي يشتمله بعض الخصوصية في محاولات فهمه وإدراكه، ونود أن نشير هنا إلى أن دراسات القرآن المحدثة من جانب المسلمين، قد أفرزت لاحقا اهتماما بأساليب القصص القرآني وفلسفتها والمراد من التنوع الواسع في حكايات السابقين والأنبياء والغابرين في القرآن، مما يعد ملمحا أساسيا في الخطاب والتوجه القرآني.

            وكما أسـلفنا، فإن هذا الحشد الوافر من القصـص القديمة لم يقصـد به بأي حال من الأحوال مجرد التفكه والتمتع والاستئناس بروائع القصص فحسب، بطبيعة الحال؛ إنه من الضروري لا محالة تقديم المزيد من الجهود لفهم معاصر ومناسب للقرآن وقصصه وعبره وسننه، فهم يتسق مع حاجات المسلمين المعاصرة، وهو لا يتجاوز بكل تأكيد الإرث العظيم، الذي خلفه علماء الأمة، ولا يتخطاه، في رفض وتعال، ورد لما فيه، وهو كذلك غير ملتصق بنتائجه، رهين بواقعه وأحواله، ورصده ومعرفته.. إن إعادة قراءة التراث لا تعني البتة عدم قبوله، أو الاستعلاء عليه.

            [ ص: 123 ] ومهما يكن من أمر، فإن دراسات السنن القرآنية، هو ميدان مبسوط للمهتمين والدارسين والباحثين، وإن كانت المجهودات السابقة، أكثرها تبرز فيه رائحة العاطفة، وميل الحرص على الدفاع عن الدين والذب عنه، وليس ذلك بعيب إن وافق الحق وصادف الصواب، إلا أن هذه البحوث تبقى قاصرة، فاترة القوة، قليلة التأثير على العقل، إن بقيت ضمن خيار المدافعة والحرص على عدم استخدام المناهج والأساليب العلمية. هذا لا يشمل أبدا مجهودات علماء وأكاديميين موقرين، أعملوا سلاح المنهج، واستخدموا عدة الأكاديمي وطرائقه.

            إن موضوع السنن هو موضوع قرآني، يهتم به أهل الأصول والتفسير، سواء بسواء، إلى جانب المؤرخين والاجتماعيين و«الأنثروبولوجيين» وعلماء الأديان الـمقارنة.. لقد نظرنا فيما كتبه رشيد رضا حكاية عن أستاذه محمد عبده، وكذلك أوردنا بعضا مما اهتم به مالك نبي، وكنا أيضا قد وصفنا الأعمال المهمة للأكاديمي المؤرخ عماد الدين خليل، والأكاديمي والمؤرخ المعروف عبد الحليم عويس.. ونضيف إليهم الدراسات، التي قام بها كل من عبد الحميد صدقي ومحمد تقي أمين عن السنن الألهية في رقي الأمم وانحطاطها.

            حاول حسن بن صالح الحميد، رصد مجهودات وعناية المسلمين بدراسة سنن الله في الأمم من خلال القرآن الكريم، منذ بداية الكتابة التاريخية لدى المسلمين، مرورا بمقدمة ابن خلدون وانتهاء بعماد الدين خليل والذي اعتبره صاحب نظرية تكاملية مقاصدية في فهم التاريخ في ضوء القرآن، ولكنه يرى كذلك أن هذا علم قائم بذاته، أو على الأقل هو مبحث في العلوم، لم يلق [ ص: 124 ] العناية الكافية أو الاهتمام اللائق به، بالنظر إلى مباحث وعلوم أخرى شرعية ولغوية، أطنب المسلمون في توصيفها وتقعيد قواعدها، ودرس أصولها وفروعها وجوانبها، وألمح قصور المتقدمين في العناية بتوضيح معالم سنن الله مشيرا إلى النتف التي عرض لها المفسرون، ولا تكاد تكون شيئا بالنسبة إلى أهمية العلم، نحو تفسير ابن جرير والبغوي وابن كثير وغيرهم، حيث قدموا تنبيهات دون توسع.

            يقول حسن الحميد: إن بحث تفسير التاريخ ودراسة السنن الإلهية قد تأخر بعد ابن خلدون، إلا أن المجهودات القريبة -كما يعبر- قد كتبت بروح إسلامية ومن منظور إسلامي.. ويظن أنه من الضروري تجميع كل جهد مستقل منفرد في التفسير أو التاريخ أو الاجتماع يعنى بالسنن ليصـبح لدينا في الوقت الراهن ما سماه بالمنهج المتكامل في التعامل مع التاريخ البشري، ويقوم الأكاديميون بمحاولات استخلاص قوانين تحكم الظواهر الاجتماعية على امتداد التاريخ





            [1] .

            [ ص: 125 ] ربما كنت أتفق في جوانب مختلفة مع صالح الحميد وحرصه على أهمية العناية بتقديم نظرات معاصرة حول القرآن وفلسفته في عرض التاريخ والعناية به، فهذا أمر ينبغي أن يحرص عليه كل مسلم، إذ أن القرآن ليس كتابا للتلاوة فحسب، وإنما جعل التدبر والتفكر والتأمل في سوحه ومعطياته من أوضح مناحي العبادة والتعبد.

            والقرآن كذلك يحمل توجيها إلهيا من عند الحكيم العليم بما يصعب جعله ضمن كتب أخرى، من وضع البشر، فلا قياس هنا، غير أني قد لا أتفق مع مداخل أو مظـان وضع النظر والتفـكر بروح العاطفـة أو ميـزان التوجـه، لاحظ مثلا إشارته إلى أن بعض الكتابات المحدثة صدرت عن منظور إسـلامي أو بأبعاد إسلامية، فيتحول التاريخ عند ذلك مثلا إلى مبحث من مباحث العلوم الشرعية، ومن غير المقبول كذلك أن يرفض المؤرخون التعامل مع التاريخ وفقا لمنطق القرآن الحكيم وإنما استنادا فقط إلى مدارس ومناهج الغرب الـمحـدثة، فلا يقبلون بتفسـيرات قوامها مقاربات السـنن الإلهيـة في الأمم أو الأفراد، ويردونها!

            غير أن الأمر بحاجة إلى مقاربة تستوفي عناصر العلوم الحديثة وتستدعي المنـاهج، قديمها وحديثـها، وقد رأينا أن منطق بعض مدارس التاريخ الغربي قد رفض ما قدمه فكر ابن خلدون التاريخي وعده مجرد ملاحظات، بينما قبله بعضهم، بل وتبناه، فكتب عنه ورعاه.

            [ ص: 126 ] إن اختلاف المنطلقات هو شأن وارد حتى في مجالات الكتابة العلمية، سببه اختلاف مدارس التفسير ومناهجه، لكن من الضروري لنا أيضا أن تقوم منطلقاتنا بقواعد من الأسس العلمية الراسـخة، التي لا تشـكلها أو تلونها أو تؤطرها مدرسة أو مذهب أو تيار سياسي وفكري ذو مرام محددة ليس من بينها خدمة العلوم أو منطقها.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية