الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            - المنهج عند عماد الدين خليل:

            يعرف طه جابر العلواني، وهو أحد رواد ومنظري تيار «أسلمة العلوم الاجتـماعية والإنسانية»، المنهج بأنه: «الوسيلة إلى قيـادة العقـل الإنسـاني إلى الحقيقة، أو إلى ما يغلب على الظن أنه الحقيقة، حتى لو لم تكن هي الحقيقة في الواقع ونفس الأمر.. والمنهج هو كذلك وسيلة وأداة لبناء قواعد التفكير، وإرساء دعائم ضوابط البحث، العلمي والمعرفي، التي من شأنها أن تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ في الفكر والبحث العلمي» [1] .

            [ ص: 183 ] وقد ذهب بعضهم إلى أن المنهج هو مجموعة من العمليات الذهنية، تتيح للباحث قدرة على التحليل والفهم وتفسير الظواهر المختلفة، فهو على هذا مجرد منفصل عن الأساليب والأدوات والوسائل، التي يستعين بها المنهج في قيادته للباحث نحو المعرفة، سواء أكانت معرفة ذات وجود واقعي أم ذهني [2] .

            وفيما يختص بالمنهج والتصور العلمي، الذي يمكن أن ينشأ جراء مقاربته المعرفية، فهو يؤكد أهمية المنهج في وضع تصـور علمي، يذكر ذلك عند حديثه عن العقل المسلم وما أتيح له من نقلة منهجية نتيجة للإسلام، وهذا المنهج ينهض وفقا لثلاثة مؤثرات أو عوامل أو اتجاهات: هي السببية، والقانون التاريخي، ومنهج البحث الحسي (التجريبي) ، وكلها مأخوذة من كتاب الله عز وجل.

            أما «السببية»، فلقد منح القرآن رؤية تركيبية للكون والحياة والإنسان والوجـود في عقل المسـلم، وهذه الرؤيـة تقوم بالربط والتأمل والمعاينة، وتنظر إلى الظواهر والأشياء في الحقول جميعها.. وقد تجاوز القرآن الكريم بذلك النظرة التبسيطية المسطحة المفككة، التي تعاين الأشياء والظواهر.. إن إحدى طرائق القرآن المبثوثة عبر سوره ومقاطعه هي التأكيد على ضرورة اعتماد الرؤية السببية للظواهر والأشياء من أجل الوصول إلى معجزة الخلق ووحدانية الله سبحانه وتعالى.. إن الأخذ بالسببية، كما يرى، يحقق كسبا كبيرا للعقل البشري.

            أما «القانونية التاريخية»، فهي أن الكون به نظام إلهي يسير حركة التاريخ.. فالتاريخ لا يتحرك بصـورة فوضـوية وعلى غير هدف، وإنما تحكمه نواميس وسنن كتلك التي تحكم الكون والحياة والأشياء، سواء بسواء.

            [ ص: 184 ] إن الوقائع التاريخية لا تتخلق بالصـدفة، وإنما من خلال شـروط خاصة، فإن القرآن الكريم وفقا لتصوره يقدم أصول منهج في التعامل مع التاريخ البشري، والانتقال بهذا التعامل من مرحلة العرض والتجميع فحسب، إلى محاولة اسـتخلاص القـوانين التي تحكم الظـواهر الاجتماعية التـاريخية، على النحو الذي نجده عند ابن خلدون.

            وتؤكد قصـص الأنبيـاء وتواريـخ الجماعات والأمم السـابقة والتي جاءت في القرآن، على وجود سنن ونواميس تخضع لها حركة التاريخ في سيرها وتطورها، حتى لكأن القرآن يوجـه أنظارنا إلى أننا نسـتطيع أن نرتب على مجموعة معينة من الوقائع التاريخية، سلفا، نتائجها التي تكاد تكون محتومة لارتباطها الصميم بمقدماتها، اعتمادا على استمرارية السنن التاريخية ودوامها.

            لقد كشف القرآن عن هذه السـنن ونفاذها، وأكد على وجـودها وثقلها في حركة التاريخ، وهي ليست أسيرة جزئيات أو تفاصيل موقوتة، بل هي قوانين عامة مرنة ومنفتحة وشاملة.

            وإجمالا لهذا المعنى، يلخص عماد الدين خليل فكرته، فيقول بأسـلوب مركز: «إن حركة أية جماعة بشرية في التاريخ ليست اعتباطية، وإنها بما قد ركب فيها من قوى العقل والروح والإرادة مسؤولة عن حركتها تلك، حيث تتحول الفوضى أو التميع إلى تخطيـط يأخذ بيـد الجمـاعة البشـرية إلى الطـريق، وحينما يضيع التخطيط، وتطلق الحرية بشكل غير واع، يكون مآل الجماعة البشرية إلى التدهور والتفتت والانهيار».

            [ ص: 185 ] أما «منهج البحث الحسي التجريبي»: فقد أوضحه القرآن الكريم.. لقد دعا القرآن الكريم إلى التبصر بحقيقة الوجود والارتباط بالكون عن طريق النظر الحسي إلى ما حولنا، ابتداء من أنفسنا وانتهاء بآفاق الكون، قال تعالى: فلينظر الإنسان مم خلق (الطـارق:5) ، وقال تـعالى: أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض (الأعراف:185) ، وقال تعالى: انظر كيف نبين لهم الآيات (المائدة:75)..

            قد أكد القرآن أيضا على الأسلوب العلمي الذي يعتمد على البرهان والحجة والجدال الحسن للوصول إلى النتائج الصحيحة، القائمة على الاستقراء والمقارنة والموازنة والتمحيص استنادا على المعطيات الحسية [3] .

            وأما آراء عماد الدن خليل بالنسبة للفعل الحضاري، فهو يرى أن بعث المسلمين من جديد لتاريخهم الحضاري الزاهر لا يتحقق ما لم تتهيأ الشروط والمواصفات ذاتها، التي تيسرت لأسلافهم، على مستوى العقيدة والمعرفة والمنهج.. ويؤكد أن الفعل الحضاري الإسلامي كان منضبطا بثلاثة اتجاهات أساسية مكنته من تعزيز وجوده ومن رفد الحضارة الإنسانية بالعطاء المتنوع.

            أول هذه الاتجاهات كان احترام الحضارة الإسلامية للتراث الحضاري البشري، الذي سبقها وعاصرها، ولم يكن العقل الإسلامي يتشنج في دائرة الذات، بل كان مرنا منفتحا، فلم يقتبس فحسب ولكنه هضم وتمثل.. واستوعب الفعل الحضاري الإسلامي المعارف والثقافات القديمة، مما قاد إلى نهضة كبرى في مجال الترجمة، وبفضل هذه الترجمات اطلع الناس على كتب اليونان، التي ضاع أصلها.

            [ ص: 186 ] الاتجاه الثاني هو أن الحضارة الإسلامية قدمت إضافة وتجديدا وإغناء وإعادة تركيب لمعطيات الحضارة، فليس كل ما صنعه المسلمون هو حماية التراث الحضاري القديم وإعادة شرحه وتفسيره، بل ابتدع العقل المسلم قيما جديدة وابتكر واكتشف الكثير من المعطيات والنظم الحضارية.

            أما الاتجاه الثالث، فلقد تمثل في النقل الجغرافي والانتشار.. فقد وضع المسلمون اكتشافاتهم أمام الجميع، وعبرت الحضارة الإسلامية إلى أوربا عن طريق الأندلس وصقلية وغيرهما [4] .

            يتحدث خليل عن أهمية المنهج ومكانته وضرورة الأخذ به فيقول: «قضية (المنهج) يجب أن تأخذ مكانة متقدمة في سلم الأولويات، ليس فقط بالنسبة للتاريخ، ولكن بالنسبة للفكر الإسلامي المعاصر عموما، إذا ما أريد لهذا الفكر أن يتجاوز السلبيات التي يعاني منها والتي أخذت تتراكم بمرور الوقت فتزيد من قيوده وأغلاله، وتعتم عليه الأفق فلا يكاد يرى الطريق، الذي يتوجب أن يقطعه وصولا للأهداف».

            يقدم عماد الدين خليل نقدا لمناهج تدريس التاريخ في العالم الإسلامي، وهو ينطلق من ذات الفـكرة التي دعا إليها دعاة أسـلمة المعارف، حيث يظن أن الطلاب الذين يدرسون التاريخ الإسلامي في عالمنا يتخرجون برؤية غير واضحة، فلا يميزون السمات الأساسية للحضارة الإسلامية، وليس في نفوسهم أي اعتزاز بالتفرد الذي يتميز به تاريخهم وحضارتهم، ولا يدركون عناصر [ ص: 187 ] الاستقلال، التي تكلل المؤرخ المسلم والتي تتيح له التفرد في تحليل وتفسير التاريخ، وهذان يخرجان من المفاهيم التي يتميز بها التاريخ والحضارة الإسلامية.

            ويرى أن المناهج الموضوعة لا تعدو أن تكون نسخة عن مناهج التفكير والبحث في الغرب، وبمثل هذا -كما يتصور- يدرس تاريخ الإسلام.. إن هذه المناهج، كما يظن، لا يمكن بأي حال أن تقدم تفسيرا شاملا ومعقولا للتاريخ الإسـلامي، فهي إن نجحت في تفسـير التاريخ في الغرب لا يمكن لها أن تنجح في تفسير التاريخ الإسلامي، ذلك أنها مناهج لا تقوم على أساس متوازن ينظر إلى القيم المادية والروحية عوامل فاعلة مشتركة في صنع التاريخ، بل هي تسـعى إلى تقليص الدوافع الروحية في حركة التاريخ، بل طمسها أحيانا، وإنكارها.

            ويقول: إن هذه المناهج، من ناحية أخرى، تقدم تاريخ العالم، من زاوية نظر غربية إقليمية تجعل أوربا مركزا للعالم، تدور حول قطبه كل المسـاحات الأخرى، في الأرض وما عليها من شعوب ودول وحضارات، ويستشهد هنا برأي محمد أسد، الذي يؤكد على هذه الفكرة.

            ومن جهة ثالثة يرى أن هذه المناهج تدرس التاريخ الإسلامي ضمن عصبيات شتى، ورواسب نفسية، وأطماع سياسية واقتصادية.

            وفي النهاية، يحاول أن يقدم حلولا لتعثر أساليب تدريس التاريخ، بعضها يقول بأن يجتهد الطلاب إلى تقديم رؤية ذاتية لتاريخهم، فيتمكن الطالب من تنمية القابلية على التصور التاريخي والنظرة الشاملة واتخاذ موقف شخص أصيل من الأحداث، كما يجب تنمية التفكير المستقل للطلاب، بحيث يناقش أستاذه فيما لا يؤمن به، وأن ينقد الكتاب المقروء باعتباره معطى يحتمل الخطأ والصواب، [ ص: 188 ] كما يعتبر أن فلسفة التاريخ هي المفتاح الحقيقي لفهم التاريخ وتعليل الأحداث والظواهر التاريخية [5] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية