الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            [ ص: 176 ] 3- عماد الدين خليل: مقاربة التفسير الإسلامي للتاريخ:

            عماد الدين خليل مؤرخ ومفكر عراقي.. ولد في الموصل سنة 1939م (وقيل سنة 1941م).. حصـل على إجـازة الآداب، من جـامعة بغـداد، سنة 1962م، ثم على الماجستير في التاريخ الإسلامي، من جامعة بغداد أيضا، سنة 1965م، ثم على درجة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي، من جامعة عين شمس، سنة 1968م [1] .

            عمل عماد الدين خليل في التـدريس الجامعي في جـامعة الموصـل، وتدرج في العمل الأكاديمي حتى حصل على الأسـتاذية في العام 1989م، كما عمل في عدد من الجامعات الأخرى، وله إنتاج علمي غزير في التاريخ، والإسلاميات، والأدب، ودراسات الحضارة وغير هذا [2] .

            - بعض مواقفه المؤدية إلى رؤية التفسير الإسلامي للتاريخ:

            يمثل عماد الدين خليل مدرسة ذات رؤية فكرية إسلامية الروح والأبعاد والمنشأ، وهو يعبر عن تيار حضاري وأخلاقي وإنساني وأكاديمي انتظم العالم الإسلامي من لدن ما درج على تسميته بالصحوة الإسلامية، وهو تيار عريض [ ص: 177 ] بدأ في التدرج مع الفكر الإصـلاحي الذي عرفته الأمة، ضـمن فترات مختـلفة في الدولة العثمانية، وما برز فيها من تنظيمات وإصلاحات، ثم ظهور أسماء لمصلحين أو مجددين أو دعاة، حاولوا تقديم رؤية جديدة، بعد عصور من انحطاط الأمة، وغياب مشروعها الخاص بها.

            إن عماد الدين خليل ابن المشروع التجديدي العقلي المعاصر، وهو امتداد لتيار الأكاديميين الذين لم ينتسب قلمهم إلى مشروع إلحادي دخيل، أو تحديثي مستغرب نشأ متأثرا بمدارس التغريب أو العلمنة المأخوذة بأنماط الكتابة الاستشراقية وأساليبها.. لكن، هل خليل هو أيديولوجي في نسقه في صياغة الكتابة العلمية؟ هل هو يمثل مدرسة سياسية بعينها، تريد أن تقحم وتلون السياسة بالكتابة المعرفية؟

            إنه من الضروري القول: إنه لا يعنينا كثيرا ما المدرسة السياسية، التي يمثلها عماد الدين خليل، بقدر ما يعنيـنا أن الرجـل هو أكاديمي في المقـام الأول، وإنما نريد هنا أن نحاكم تجربته العلمية وكتابته، طالما أنها التزمت بروح وصفة العلم، وأسس منطقه وفكره الناقد استنادا على الأدلة والبراهين السائدة في المجامع الأكاديمية.. وتبقى ميوله واتجاهاته ضمن ما يؤمن به محل احترام.

            لقد أرسى عماد الدين خليل الأسس النظرية لمشـروعه الفكري والتاريخي من خلال رؤية الاستخلاف للإنسان في الأرض، وهو التصور الذي جعل للإنسان غاية من خلقه ووجوده في الكون، فهناك قصد من وراء خلق الإنسان، عبرت عنه الآيات القرآنية، قال تعالى: [ ص: 178 ] وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون (الأنبياء:16-19) ، وقال تعالى: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم (البقرة:29) ، وقال تعالى: أيحسب الإنسان أن يترك سدى (القيامة:36).

            يرى خليل أننا إذا أردنا أن نعتمد الأسس، التي وضعها المؤرخ «أرنولد توينبي» في مسألة الحضارة ورؤيته التي تقوم على فكرة التحدي، فإننا يمكن أن نصف الرؤية الحضارية الإسلامية بأنها قائمة على تصور التحدي، الذي يجابهه الإنسان إزاء العالم.. ويظن خليل أن تحدي الإنسان موجود في أن الله لم يمهد العالم تمهيدا كاملا للإنسان فيكشف له عن قوانينه وأسراره جملة، فحينئذ يغيب معنى التحدي ولا يبقى شيء في علمية الاستخلاف، التي تتطلب إبداعا ومقاومة وتحديا واستجابة، ولأن ذلك مما يقود الإنسان إلى التراخي والسلبية المطلقة، ويسلمه إلى السكون الكامل، الذي هو عكس مهمة الإنسان في الأرض.

            كما أن الله سبحانه وتعالى لم يشأ أن يجعل - من ناحية أخرى- العالم على حالة من التعقيد والصـعوبة والانغلاق والغموض، بحيث يعجز الإنسـان عن الاسـتجابة والإبداع، الأمر الذي يتنافى أيضا ومهمته الحضارية التي أنيطت به خليفة لله على الأرض جاء لإعمار عالم غير مقفل أو مسـدود، قال تعالى: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير (الشورى:27).. [ ص: 179 ] وكلها آيات تدل على التسخير المتوازن المناسب، الذي يجيء لخدمة مهمة الإنسان في الأرض [3] .

            ويؤمن عماد الدين خليل بقوة بمسألة استعادة المسلمين لتأثيرهم الحضاري، استنادا على الروح التي عرفها المسلمون في أيام مجدهم الأول، وهو يعتقد أن العقل المسلم لا يمكن أن ينهض من جديد دون العودة إلى الجذور وإلى النظرية الكلية، التي يقوم عليها دين الله الإسلام [4] .

            ينتقد خليل المذاهب الوضعية المادية، ويرى أن منهجا مثل منهج «هيغل» يتسم بالغموض.. أما المناهج المادية، كالحال عند «ماركس» و«أنغلز»، فقد قادت إلى إعلان مبدأ دكتاتورية الطبقة العاملة، وقامت بتبرير أي أسلوب لتحقيق هدفها، وفي النهاية أدى ذلك إلى تنفيذ مجازر جماعية تجاه كافة القوى المعارضة، الأمر الذي لا ينسجم وبدهيات التحضر البشري الحر.

            أما فلسفة «هيغل» فقد قادت في رأيه إلى ممارسة العدوانية، التي تؤدي إلى الدمار الحضاري والظلم البشري، بينما اعتقد أن الموقف الإسلامي يقوم على اسـتقطاب كافة الفاعليات والمعطيات لعبادة الله، والتوجه إليه، ويطلب من القوى المؤمنة أن تتحرك على مدار التاريخ، وفق الأساليب الإنسانية الشـريفة الممكنة [5] .

            [ ص: 180 ] ويؤمن عماد الدين خليل كذلك بنظرة تجديدية تستلهم روح الإسـلام، الذي يرفض وجود طبقة كهنوتية يقيمها رجال أو علماء الدين، لذلك فهو يرى أن أي تناقض يظهر في فهم مفهوم الاستخلاف من حيث تسـخير الأرض للإنسان ومسـيرة الإنسـان في إعمار الأرض إنما «يجيئ على أيدي طبقات رجال الدين، التي يقوم دورها على التزييف ووضع الحواجز ونصب العراقيل في دروب المؤمنين من أجل أن تضطرهم اضطرارا للجوء إليها وطلب معونتها، قبل السماح لها بالذهاب إلى الله، وهنا يبدأ الاستغلال والاستنزاف والأكل بآيات الله ثمنا قليلا» [6] .

            إن خليل مشغول بمسألة العقل المسلم وإعادة تشكيله وتأسيسه على رؤية قرآنية أصولية تستند إلى الإسلام، وقد أصدر ثلاثة كتب نحو هذا المعنى، محاولا إعادة تقديم تفسير لفهم الحياة والوجود ضمن السياق الحضاري وضمن حراك التاريخ في ضوء الرؤية القرآنية، مما يجعل الرجل صاحب مشروع أصولي إحيائي علمي، وإن كانت ملامح هذا المشروع تظل غير واضحة التفاصيل، إلا أن معالم الفكر في مخططه يبدو جليا، ويستند على عدة ملامح، أبرزها:

            - مفهوم الاستخلاف وتسخير الأرض للإنسان: متضمنا معنى ومغزى الخلق ووجود الإنسان على سطح البسيطة.

            - الرؤية القرآنية: التي تسـتمد مناهجها وفكرها ونظرها للواقع والمسـتقبل من القرآن الكريم، ثم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهما أصل التشريع ومحل اتفاق الأمة.

            [ ص: 181 ] - تحقيق النهضة، ومعاودة البعث والإحياء لقيم الأمة ولماضيها الزاهر، ولمنطلقاتها الحضارية، وإعادة أمجاد الإسلام في العلم والثقافة والحياة لا تكون عنده إلا بالعودة إلى الدين.

            - رفض المذاهب الغربية والشرقية، التي أثبتت فشلا واضحا في حراك التاريخ الحديث، وأصبحت محل شك الكثيرين في أنها يمكن أن تحقق سعادة البشرية.

            - تجديد الفهم للدين، وعـدم حصـره في طبقة من العلماء يختزلون معـاني القرآن ويفسـرونها لمصالحهم، وإنما التلقي عن القرآن والأخذ من معينه وموارده الصافية.

            - إعمال مناهج السابقين المناسبة والجديرة بالأخذ خاصة في علم التاريخ، على نحو الأخذ بالرواية التاريخية، والتحقق من أسانيدها ورواتها كما فعل السابقون عندما رووا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

            - الإيمان الجازم أن العقيـدة الإسـلامية هي المحرك، والقائـد ومصـدر كل تحول وتغيير وإنجاز.

            - الدين هو قيمة معرفية وأخلاقية تؤثر على حياة الأفراد والأمم والشعوب ولا مناص من التحقق بها.

            - اعتماد المنهج الإسلامي الـمستقى من أصول الدين منهجا للتفكير العلمي، والمنطق المعرفي، والرؤية الحياتية، عبادة لله عز وجل واستجابة للقرآن.

            - الالتزام العلمي الواعي بالتراث، وتفحصـه ودراسـته من أجل فهم الحضارة الإسلامية.

            [ ص: 182 ] وفي معرض حديثه عن قياس المسافة الحضارية اليوم بيننا وبين الغرب، نجده يشير إلى أننا لا يمكننا اللحاق بركب الغربيين في المسائل الحياتية والإنجاز والسبق الإنساني ما لم نتحقق بشرط العمل لتحقيق الأهداف والسعي إليها مثلما فعل الغربيون ويفعلون، لكنه يؤكد أن عملنا ذلك لن يكون استعارة لتقليد أو تجربة حضارية، وإنما يكون ارتدادا إلى أصولنا، نرجع فيه إلى كتابنا وسنتنا وتقاليد أجدادنا الرواد؛ لكي نعرف كيف يكون السبق الحضاري والإبداع [7] .

            إن فـكر خليل يقـوم بكل وضـوح على مسـألة العـودة إلى الجـذور، وهو لا يتـوانى عن التبشـير بذلك، ويعـبر عن فكرتـه دون مواربـة أو تلبيس أو غموض، وإنما يظهرها إظهارا، ويوضح صورتها وأركانها ومعالمها.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية