الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3388 88 - حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا معتمر، عن أبيه، حدثنا أبو عثمان، أنه حدثه عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، أن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس أو كما قال، وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 124 ] بعشرة، وأبو بكر بثلاثة، قال: فهو أنا، وأبي، وأمي، ولا أدري هل قال: امرأتي وخادمي بين بيتنا وبين بيت أبي بكر، وأن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حتى صلى العشاء، ثم رجع فلبث حتى تعشى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله، قالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك - أو: ضيفك -؟ قال: أوعشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء، قد عرضوا عليهم فغلبوهم، فذهبت فاختبأت، فقال: يا غنثم، فجدع وسب. وقال: كلوا. وقال: لا أطعمه أبدا. قال: وايم الله ما كنا نأخذ من اللقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها حتى شبعوا، وصارت أكثر مما كانت قبل، فنظر أبو بكر، فإذا شيء أو أكثر، قال لامرأته: يا أخت بني فراس، قالت: لا، وقرة عيني لهي الآن أكثر مما قبل بثلاث مرات، فأكل منها أبو بكر. وقال: إنما كان الشيطان، يعني: يمينه، ثم أكل منها لقمة، ثم حملها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصبحت عنده، وكان بيننا وبين قوم عهد، فمضى الأجل، ففرقنا اثني عشر رجلا، مع كل رجل منهم أناس، الله أعلم كم مع كل رجل، غير أنه بعث معهم، قال: أكلوا منها أجمعون، أو كما قال.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  قيل: لا مطابقة بينه وبين الترجمة هنا؛ لأن الترجمة في علامات النبوة، والحديث في كرامة الصديق، وأجيب بأنه يجوز أن تظهر المعجزة على يد الغير، أو استفيد الإعجاز من آخره حيث قال: أكلوا منها أجمعون.

                                                                                                                                                                                  ومعتمر يروي عن أبيه سليمان بن طرخان، وهو من صغار التابعين. وفي رواية أبي النعمان التي مضت في كتاب الصلاة: حدثنا معتمر بن سليمان، حدثنا أبي، وأبو عثمان هو عبد الرحمن بن مل النهدي، بفتح النون.

                                                                                                                                                                                  والحديث مضى في أواخر كتاب مواقيت الصلاة في باب السمر مع الأهل والضيف.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إن أصحاب الصفة " هي مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل، وكانوا يكثرون فيه ويقلون بحسب من يتزوج منهم أو يموت أو يسافر. قوله: " فليذهب بثالث "، أي: من أهل الصفة. وفي رواية مسلم: فليذهب بثلاثة. قال عياض: وهو غلط، والصواب رواية البخاري؛ لموافقتها لسياق باقي الحديث. وقال القرطبي: إن حمل على ظاهره فسد المعنى؛ لأن الذي عنده طعام اثنين إذا ذهب معه بثلاثة لزم أن يأكله في خمسة، وحينئذ لا يكفيهم، ولا يسد رمقهم، بخلاف ما إذا ذهب معه بواحد فإنه حينئذ يأكله من ثلاثة، وأجاب النووي عنه بأن التقدير: فليذهب بمن يتم من عنده ثلاثة، أو فليذهب بتمام ثلاثة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وأبو بكر بثلاثة "، أي: وانطلق أبو بكر وثلاثة معه، وإنما كرر بثلاثة؛ لأن الغرض من الأول الإخبار بأن أبا بكر كان من المكثرين ممن عنده طعام أربعة فأكثر، وأما الثاني فهو مما يقتضي سوق الكلام على ترتيب القصة ذكره.

                                                                                                                                                                                  قوله: قال؛ أي: قال عبد الرحمن بن أبي بكر. قوله: " فهو أنا "، أي: الشأن أنا وأبي وأمي في الدار، والمقصود منه بيان أن في منزله هؤلاء، فلا بد أن يكون عنده طعامهم، وأم عبد الرحمن هي أم رومان مشهورة بكنيتها، واسمها زينب، وقيل: وعلة بنت عامر بن عويمر، كانت تحت الحارث بن سخبرة الأزدي، فمات بعد أن قدم مكة، وخلف منها ابنه الطفيل، فتزوجها أبو بكر فولدت له عبد الرحمن وعائشة، وأسلمت أم رومان قديما وهاجرت وعائشة معها، وأما عبد الرحمن فتأخر إسلامه، وهجرته إلى هدنة الحديبية، فقدم في سنة سبع أو أول سنة ثمان، واسم امرأته أميمة بنت عدي بن قيس السهمية، وهي والدة أكبر أولاد عبد الرحمن أبي عتيق محمد رضي الله تعالى عنهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ولا أدري هل قال " القائل هو أبو عثمان الراوي، عن عبد الرحمن كأنه شك في ذلك. قوله: " وخادمي " بالإضافة. وفي رواية الكشميهني بغير إضافة. قوله: " بين بيتنا وبيت أبي بكر"، يعني: خدمتها مشتركة بين بيتنا وبيت أبي بكر، وقوله: " بين " ظرف للخادم. قوله: " إن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم ".

                                                                                                                                                                                  وفي مسلم قال: وإن أبا بكر - أي: قال عبد الرحمن: وإن أبا بكر - تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: " ثم لبث "، أي: [ ص: 125 ] مكث عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى صلى العشاء، وفيما تقدم في باب السمر مع الأهل، ثم لبث حتى صليت العشاء الآخرة، وكذا في رواية مسلم. قوله: " ثم رجع "، أي: ثم رجع أبو بكر إلى منزله هذا الذي يفهم من ظاهر الرواية، والرواة ما اتفقوا على هذا؛ لأن في رواية الإسماعيلي: ثم ركع بالكاف، أي: ثم صلى النافلة، والحاصل على هذا أن أبا بكر مكث عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى صلى العشاء، ثم صلى النافلة فلبث أبو بكر عنده حتى تعشى أو حتى نعس، يعني: أخذ في النوم على ما نذكره الآن. قوله: " فلبث "، معناه: فلبث عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن رجع إليه حتى تعشى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية مسلم: ثم رجع فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه وسلم من النعاس الذي هو مقدمة النوم. وقال بعضهم: شرح الكرماني -يعني: هذا الموضع- بأن المراد أنه لما جاء بالثلاثة إلى منزله لبث في منزله إلى وقت صلاة العشاء، ثم رجع إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فلبث عنده حتى تعشى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذا لا يصح؛ لأنه يخالف صريح قوله في حديث الباب: وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): لم يقل الكرماني: هذا مثل الذي ذكره، وإنما قال: (فإن قلت): هذا يشعر بأن التعشي عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان بعد الرجوع إليه، وما تقدم بأنه كان بعده. (قلت): الأول بيان حال أبي بكر رضي الله تعالى عنه في عدم احتياجه إلى الطعام عند أهله، والثاني هو سوق القصة على الترتيب الواقع، أو الأول تعشي الصديق، والثاني تعشي الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، أو الأول من العشاء بكسر العين، والثاني منه بفتحها، انتهى.

                                                                                                                                                                                  هذا لفظ الكرماني، فلينظر المتأمل هل نسبة هذا القائل عدم الصحة إلى الكرماني صحيحة أم لا، وحل تركيب هذا الحديث يحتاج إلى دقة نظر وتأمل كثير. قوله: " أو ضيفك "، شك من الراوي، وعلى هذا فالضيف كانوا ثلاثة، فكيف قال بالإفراد؟ فكأنه أشار إلى أن الضيف اسم جنس يطلق على القليل والكثير. وقال الكرماني: أو الضيف مصدر يتناول المثنى والجمع. (قلت): لا يصح هذا لفساد المعنى.

                                                                                                                                                                                  قوله: أوعشيتهم. وفي رواية الكشميهني: أوما عشيتهم بزيادة ما النافية، وكذا في رواية مسلم والإسماعيلي، والهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدر بعد الهمزة، ويروى: أوعشيتيهم، بالياء الساكنة بعد تاء الخطاب. قوله: " قالت: أبوا "، أي: امتنعوا إلى أن تجيء رفقا به لظنهم أنه لا يجد عشاء فصبروا حتى يأكل معهم. قوله: " قد عرضوا "، بفتح العين، أي: قد عرض الأهل والخدم. قوله: " فغلبوهم "، أي: إن آل أبي بكر رضي الله عنه عرضوا على الأضياف العشاء فامتنعوا فعالجوهم فامتنعوا حتى غلبوهم، وبقية الكلام مرت في باب السمر مع الأهل. قوله: " فذهبت "، أي: قال عبد الرحمن: فذهبت. وفي رواية مسلم: قال: فذهبت أنا. قوله: " فاختبأت "، أي: اختفيت خوفا منه. قوله: " فقال: يا غنثر "، بضم الغين المعجمة، وسكون النون، وفتح الثاء المثلثة، وفي آخره راء؛ معناه الجاهل، وقيل: غنثر: الذباب، وأراد به التغليظ عليه حيث خاطبه بشيء فيه التحقير، وقد مر في الصلاة كلام كثير فيه فليرجع إليه هناك. قوله: " فجدع "، أي: جدع أبو بكر، بفتح الجيم، وتشديد الدال المهملة، وفي آخره عين مهملة، أي: دعا بالجدع، وهو قطع الأنف والأذن ونحو ذلك. قوله: " وسب "، أي: شتم ظنا منه أن عبد الرحمن فرط في حق الأضياف. قوله: " وقال: كلوا "، أي: قال أبو بكر: كلوا. وفي رواية الصلاة: كلوا لا هنيئا، وكذا في رواية مسلم: إنما قاله لما حصل له من الحرج والغيظ بتركهم العشاء بسببه، وقيل: إنه ليس بدعاء إنما هو خبر، أي: لم تهنؤوا به في وقته. قوله: " فقال: لا أطعمه أبدا ". وقال القرطبي: كل ذلك من أبي بكر على ابنه ظنا منه أنه فرط في حق الأضياف، فلما تبين له أن ذلك كان من الأضياف أدبهم بقوله: كلوا لا هنيئا، وحلف أن لا يطعمه. وفي رواية الجريري: فقال: إنما انتظرتموني، والله لا أطعمه أبدا، فقال الآخرون: والله لا نطعمه أبدا حتى تطعمه. وفي رواية أبي داود من هذا الوجه: فقال أبو بكر: فما منعكم؟ قالوا: مكانك. قال: والله لا أطعمه أبدا، ثم اتفقا، فقال: لم أر من الشر كالليلة، ويلكم ما أنتم؟ لم لا تقبلون عنا قراكم، هات طعامك، فوضع فقال: باسم الله الأولى من الشيطان، فأكل وأكلوا. قوله: " الأولى من الشيطان "، أراد به يمينه. قال القاضي: وقيل: معناه اللقمة الأولى من أجل قمع الشيطان وإرغامه ومخالفته في مراده باليمين، وقال النووي: فيه أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فعل ذلك، وكفر عن يمينه كما جاءت به الأحاديث الصحيحة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وايم الله "، أي: قال عبد الرحمن: وايم الله، هذا من ألفاظ اليمين، وهو مبتدأ، وخبره محذوف، أي: وايم الله قسمي، وهمزته همزة وصل لا يجوز قطعه عند الأكثرين، وقد أطلنا الكلام فيه في التيمم في باب [ ص: 126 ] الصعيد الطيب. قوله: " إلا ربا من أسفلها "، أي: زاد من أسفلها، أي: من الموضع الذي أخذت منه.

                                                                                                                                                                                  قوله: فإذا شيء، أي: فإذا هو شيء كما كان أو أكثر، ويروى لها: فإذا هي شيء، أي: البقية أو الأطعمة. قوله: " قال لامرأته " أي: قال أبو بكر رضي الله عنه لامرأته - يا أخت بني فراس، قال النووي: معناه: يا من هي من بني فراس، بكسر الفاء، وتخفيف الراء، وفي آخره سين مهملة. قال القاضي: فراس هو ابن غنم بن مالك بن كنانة، وقد تقدم أن أم رومان من ذرية الحارث بن غنم، وهو أخو فراس بن غنم، فلعل أبا بكر نسبها إلى بني فراس لكونهم أشهر من بني الحارث، وقد يقع مثل هذا كثيرا، وقيل: المعنى، يا أخت القوم المنتسبين إلى بني فراس.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قالت: لا وقرة عيني "، كلمة " لا " زائدة للتأكيد، ويحتمل أن تكون نافية، وثمة محذوف، أي: لا شيء غير ما أقول، وهو قولها: وقرة عيني، والواو فيه للقسم، وقرة العين، بضم القاف، وتشديد الراء، يعبر بها عن المسرة ورؤية ما يحب الإنسان، وقد طولنا الكلام فيه في كتاب الصلاة في باب السمر مع الأهل والضيف.

                                                                                                                                                                                  قوله: " لهي الآن أكثر " بالثاء المثلثة، وقيل: بالباء الموحدة. قوله: " ثلاث مرات "، وقيل: ثلاث مرار. قوله: " فأكل منها "، أي: من الأطعمة. قوله: " إنما كان الشيطان"، يعني: إنما كان الشيطان الحامل على يمينه التي حلفها، وهي قوله: والله، لا أطعمه. وفي رواية مسلم: إنما كان ذلك من الشيطان، يعني: يمينه، وهذا أقرب. قوله: " فأصبحت عنده "، أي: أصبحت الأطعمة التي في الجفنة عند النبي صلى الله عليه وسلم على حالها، وإنما لم يأكلوا منها في الليل لكون ذلك وقع بعد أن مضى من الليل مدة طويلة. قوله: " عهد "، أي: عهد مهادنة، ويروى: وكانت بيننا، والتأنيث باعتبار المهادنة. قوله: " فمضى العهد "، أي: مضت مدة العهد. قوله: " ففرقنا " من التفريق، فالراء فيه مفتوحة، والضمير المرفوع فيه يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلمة " نا " مفعوله، والفاء فيه فاء الفصيحة، أي: فجاءوا إلى المدينة، أي: جعل كل رجل مع اثنتي عشرة فرقة. وفي رواية مسلم: فعرفنا بالعين المهملة، والراء المشددة، أي: جعلنا عرفاء نقباء على قومهم.

                                                                                                                                                                                  وفيه دليل لجواز تعريف العرفاء على العساكر ونحوها، وفي سنن أبي داود: العرافة حق، ولما فيه من مصلحة الناس، وليتيسر ضبط الجيوش على الإمام ونحوها باتخاذ العرفاء. (فإن قلت): جاء في الحديث: العرفاء في النار. (قلت): هو محمول على العرفاء المقصرين في ولايتهم المرتكبين فيها ما لا يجوز. وقال الكرماني: وفي بعض الروايات فقرينا بقاف، وراء، وياء آخر الحروف من القرى، وهي الضيافة. وقال بعضهم: ولم أقف على ذلك. (قلت): لا يلزم من عدم وقوفه على ذلك الإنكار عليه؛ لأن من لم يقف على شيء أكثر ممن وقف عليه. قوله: " اثنا عشر رجلا ". وفي رواية مسلم: اثني عشر بالنصب، وهو ظاهر، وأما رواية الرفع فعلى لغة من يجعل المثنى بالألف في الأحوال الثلاث، ومنه قوله تعالى: إن هذان لساحران

                                                                                                                                                                                  قوله: " غير أنه بعث "، أي: غير أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معهم نصيب أصحابهم إليهم. قوله: " أو كما قال "، شك من أبي عثمان، والمعنى: أن جميع الجيش أكلوا من تلك الأطعمة التي أرسلها أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الجفنة، فظهر بذلك أن تمام البركة فيها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم، والذي وقع في بيت أبي بكر رضي الله عنه كان ظهور أوائل البركة فيها، والفوائد التي استفيدت من الحديث المذكور ذكرناها في باب السمر مع الأهل والضيف.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية