الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3286 127 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال: حدثني مالك، عن محمد بن المنكدر، وعن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد: ماذا سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الطاعون؟ فقال أسامة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه. قال أبو النضر: لا يخرجكم إلا فرارا منه.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: " على طائفة من بني إسرائيل ".

                                                                                                                                                                                  وأبو النضر - بسكون الضاد المعجمة - اسمه سالم، وهو ابن أبي أمية مولى عمر بن عبيد الله بن معمر القرشي التيمي المدني.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في ترك الحيل عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري، وأخرجه مسلم في الطب عن يحيى بن يحيى عن مالك به، وعن جماعة آخرين.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الترمذي في الجنائز عن قتيبة، وأخرجه النسائي في الطب عن قتيبة وعن الحارث بن مسكين عن أبي القاسم عن مالك.

                                                                                                                                                                                  قوله: (في الطاعون)؛ أي: في حال الطاعون وشأنه، وهو على وزن فاعول، من الطعن غير أنه عدل عن أصله ووضع دالا على الموت العام المسمى بالوباء. وقال الخليل: الوباء هو الطاعون. وقيل: هو كل مرض عام يقع بكثير من الناس نوعا واحدا بخلاف سائر الأوقات فإن أمراضهم فيها مختلفة، فقالوا: كل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونا. وقيل: الطاعون هو الموت الكثير. وقيل: بثر وورم مؤلم جدا يخرج مع لهيب ويسود ما حوله أو يخضر، ويحصل معه خفقان القلب والقيء، ويخرج في المراق والآباط.

                                                                                                                                                                                  قوله: (رجز)؛ أي: عذاب كائن على من كان قبلنا، وهو رحمة لهذه الأمة كما صرح به في حديث آخر.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فلا تقدموا) بفتح الدال، (عليه)؛ أي: على الطاعون الذي وقع بأرض، وذلك لأن المقام بالموضع الذي لا طاعون فيه أسكن للقلوب.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فرارا منه)؛ أي: لأجل الفرار من الطاعون، وذكر ابن جرير الخلاف عن السلف في الفرار منه، وذكر عن أبي موسى الأشعري أنه كان يبعث بنيه إلى الأعراب من الطاعون، وعن الأسود بن هلال ومسروق أنهما كانا يفران منه، وعن عمرو بن العاص أنه قال: تفرقوا في هذا الرجز في الشعاب والأودية ورؤوس الجبال! فبلغ معاذا فأنكره وقال: بل هو شهادة ورحمة ودعوة نبيكم. وكان بالكوفة طاعون فخرج المغيرة منها، فلما كان في حضار بني عوف طعن فمات، وأما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فإنه رجع من سرع ولم يقدم عليه حين قدم الشام وذلك لدفع الأوهام المشوشة لنفس الإنسان، وتأول من فر أنه لم ينه عن الدخول والخروج مخافة أن يصيبه غير المقدر، ولكن مخافة الفتنة أن يظنوا أن هلاك القادم إنما حصل بقدومه، وسلامة الفار إنما كانت بفراره، وهذا من نحو النهي [ ص: 59 ] عن الطيرة، وعن ابن مسعود: هو فتنة على المقيم والفار؛ أما الفار فيقول: فررت فنجوت! وأما المقيم فيقول: أقمت فمت! وإنما فر من لم يأت أجله وأقام من حضر أجله. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: الفرار منه كالفرار من الزحف. ويقال: قلما فر أحد من الوباء فسلم. ويكفي في ذلك موعظة قوله تعالى: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت الآية...، قال الحسن: خرجوا حذرا من الطاعون فأماتهم الله في ساعة واحدة، وهم أربعون ألفا. وذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتابه: كانت العرب تقول: إذا دخل أحد بلدا وفيها وباء فإنه ينهق نهيق الحمار قبل دخوله فيها، إذا فعل أمن من الوباء.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): عدم القدوم عليه تأديب وتعليم وعدم الخروج إثبات التوكل والتسليم، وهما ضدان يؤمر وينهى عنه! قلت: قال ابن الجوزي: إنه لم يؤمن على القادم عليه أن يظن إذا أصابه أن ذلك على سبيل العدوى التي لا صنع للعذر فيما نهي عن ذلك، فكلا الأمرين مراد لإثبات العذر وترك التعرض لما فيه من تزلزل الباطن، وقال بعضهم: إنما نهى عن الخروج لأنه إذا خرج الأصحاء وهلك المرضى فلا يبقى من يقوم بأمرهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: (قال أبو النضر: لا يخرجكم إلا فرارا منه)، كذا هو بالنصب ويجوز رفعه، واستشكلهما القرطبي لأنه يفيد بحكم ظاهره أنه لا يجوز لأحد أن يخرج من الوباء إلا من أجل الفرار وهذا محال وهو نقيض المقصود من الحديث، فلا جرم قيده بعض رواة الموطأ بكسر الهمزة وسكون الفاء، ورد هذا بأنه لا يقال: أفر إفرارا وإنما يقال: فر فرارا، وقيل: " ألا " هاهنا غلط من الراوي والصواب حذفها، وقيل: إنها زائدة كما في قوله تعالى: ما منعك ألا تسجد - أي: ما منعك أن تسجد؟ ووجه طائفة النصب على الحال وجعلوا " ألا " للإيجاب لا للاستثناء، وتقديره: لا تخرجوا إذا لم يكن خروجكم إلا فرارا منه، فأباح الخروج لغرض آخر كالتجارة ونحوها.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية