الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3493 192 - حدثني أحمد بن شبيب بن سعيد، قال: حدثني أبي، عن يونس، قال ابن شهاب: أخبرني عروة، أن عبيد الله بن عدي بن الخيار، أخبره أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، قالا: ما يمنعك أن تكلم عثمان لأخيه الوليد فقد أكثر الناس فيه، فقصدت لعثمان حتى خرج إلى الصلاة، قلت: إن لي إليك حاجة، وهي نصيحة لك، قال: يا أيها المرء - [ ص: 203 ] قال معمر: أراه قال: أعوذ بالله منك، فانصرفت فرجعت إليهم إذ جاء رسول عثمان، فأتيته فقال: ما نصيحتك؟ فقلت: إن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وكنت ممن استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فهاجرت الهجرتين، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت هديه، وقد أكثر الناس في شأن الوليد، قال: أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لا، ولكن خلص إلي من علمه ما يخلص إلى العذراء في سترها. قال: أما بعد، فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وآمنت بما بعث به، وهاجرت الهجرتين كما قلت، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايعته، فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله ثم أبو بكر مثله، ثم عمر مثله ثم استخلفت، أفليس لي من الحق مثل الذي لهم؟ قلت: بلى. قال: فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟ أما ما ذكرت من شأن الوليد فسنأخذ فيه بالحق إن شاء الله، ثم دعا عليا فأمره أن يجلده فجلده ثمانين.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: " ثم دعا عليا رضي الله تعالى عنه... إلى آخره " من حيث إنه أقام الحد على أخيه فهذا فيه دلالة على مراعاة الحق.

                                                                                                                                                                                  وفيه منقبة من مناقبه.

                                                                                                                                                                                  وأحمد بن شبيب بن سعيد أبو عبد الله الحبطي البصري، وأبوه شبيب بن سعيد يروي عن يونس بن يزيد، روى عنه ابنه هنا، وفي الاستقراض مفردا، وفي غير موضع مقرونا، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عدي بفتح العين المهملة، وكسر الدال المهملة ابن الخيار النوفلي الفقيه، والمسور بن مخرمة بفتح الميم في الأب وكسرها في الابن، وقد مرا عن قريب، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث بفتح الياء آخر الحروف وضم الغين المعجمة وفي آخره ثاء مثلثة القرشي الزهري المديني، وهو من أفراد البخاري.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ما يمنعك " الخطاب لعبيد الله بن عدي، وفي رواية معمر عن الزهري التي تأتي في هجرة الحبشة قالا: ما يمنعك أن تكلم خالك؛ لأن عبيد الله هذا هو ابن أخت عثمان بن عفان.

                                                                                                                                                                                  قوله: " لأخيه " أي: لأجل أخيه. وفي رواية الكشميهني: في أخيه الوليد بن عقبة، وصرح بذلك في رواية معمر، وكان الوليد هذا أخا عثمان لأمه وعقبة هو ابن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وكان عثمان رضي الله تعالى عنه ولى الوليد الكوفة، وكان عاملا بالجزيرة على عربها، وكان على الكوفة سعد بن أبي وقاص، وكان عثمان ولاه لما ولي الخلافة بوصية من عمر رضي الله تعالى عنه، وكان عمر قد عزله عن الكوفة كما ذكرنا.

                                                                                                                                                                                  ثم عزل عثمان سعدا عن الكوفة، وولى الوليد عليها، وكان سبب العزل أن عبد الله بن مسعود كان على بيت المال في الكوفة، فاقترض منه سعد مالا فجاء يتقاضاه فاختصما، فبلغ عثمان فغضب عليهما، وعزل سعدا، واستحضر الوليد من الجزيرة، وولاه الكوفة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فقد أكثر الناس فيه " أي: في الوليد، يعني أكثروا فيه من الكلام في حقه بسبب ما صدر منه، وكان قد صلى بأهل الكوفة صلاة الصبح أربع ركعات، ثم التفت إليهم، فقال: أزيدكم، وكان سكرانا وبلغ الخبر بذلك إلى عثمان، وترك إقامة الحد عليه فتكلموا بذلك فيه، وأنكروا أيضا على عثمان عزل سعد بن أبي وقاص مع كونه أحد العشرة ومن أهل الشورى، واجتمع له من الفضل والسن والعلم والدين والسبق إلى الإسلام ما لم يتفق منه شيء للوليد بن عقبة، ثم لما ظهر لعثمان سوء سيرته عزله، ولكن أخر إقامة الحد عليه ليكشف عن حال من يشهد عليه بذلك، فلما ظهر له الأمر أمر بإقامة الحد عليه كما نذكره، وروى المدايني من طريق الشعبي أن عثمان لما شهدوا عنده على الوليد حبسه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فقصدت " القائل هو عبيد الله بن عدي حاصل المعنى أنه قصد الحضور عند عثمان حتى خرج إلى الصلاة، وفي رواية الكشميهني: حين خرج، والمعنى على هذه الرواية صادف عبيد الله وقت خروج عثمان إلى الصلاة، وعلى الرواية الأولى أنه جعل قصده منتظرا خروج عثمان.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وهي نصيحة لك " الواو فيه للحال، ولفظة هي ترجع إلى الحاجة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قال " أي: [ ص: 204 ] قال عثمان " يا أيها المرء منك " يخاطب بذلك عبيد الله بن عدي تقديره: أعوذ بالله منك، وقد صرح معمر بذلك في روايته في هجرة الحبشة على ما يأتي، وأشار إليه هاهنا بقوله: " قال معمر: أراه قال: أعوذ بالله منك، أي: قال معمر بن راشد البصري، وكان قد سكن اليمن.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أراه " أي: أظنه. قال: أيها المرء أعوذ بالله منك. وقال ابن التين: إنما استعاذ منه خشية أن يكلمه بشيء يقتضي الإنكار عليه، وهو في ذلك معذور فيضيق بذلك صدره.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فانصرفت " أي: من عند عثمان رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فرجعت إليهم " أي: إلى المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود، ومن كان عندهما، وفي رواية معمر: فانصرفت فحدثتهما، أي: المسور وعبد الرحمن بن الأسود، ومن كان عندهما بالذي قلت لعثمان فقالا: قد قضيت الذي عليك.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إذ جاء رسول عثمان " كلمة " إذ " للمفاجأة. وفي رواية معمر: فبينما أنا جالس معهما إذ جاء رسول عثمان، فقال لي: قد ابتلاك الله فانطلقت.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فأتيته " أي: فأتيت عثمان، فقال: ما نصيحتك؟ أراد بها ما في قوله لما جاء إليه، وقال له: إن لي إليك حاجة، وهي نصيحة لك.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فقلت " أشار به إلى تفسير تلك النصيحة بالفاء التفسيرية، وهي من قوله: " إن الله سبحانه " إلى قوله: " أدركت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وكنت " بفتح تاء الخطاب، يخاطب به عثمان، وكذا بفتح التاء في قوله: " هاجرت وصحبت ورأيت " وأراد بالهجرتين: الهجرة إلى الحبشة، والهجرة إلى المدينة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ورأيت هديه " بفتح الهاء وسكون الدال أي: رأيت طريقته.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وقد أكثر الناس في شأن الوليد " أي: أكثروا فيه الكلام بسبب شربه الخمر، وسوء سيرته. وزاد معمر في روايته عقيب هذا الكلام: وحق عليك أن تقيم عليه الحد.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قال أدركت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم " أي: قال عثمان لعبيد الله بن عدي يخاطب بقوله: " أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي رواية معمر: فقال لي: يا ابن أختي. وفي رواية صالح بن الأخضر عن الزهري عند عمر بن شبة: هل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، ومراده بالإدراك إدراك السماع والأخذ عنه، وبالرؤية رؤية المميز له، ولم يرد نفي الإدراك بالعين فإنه ولد في حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وقال ابن ماكولا: ولد على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقتل أبوه يوم بدر كافرا، وقال ابن سعد في طبقة الفتحيين: والمدائني وعمر بن شبة في (أخبار المدينة): إن هذه القصة المحكية هاهنا وقعت لعدي بن الخيار نفسه مع عثمان رضي الله تعالى عنه، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قلت: لا " أي: ما رأيته، ولكن أدركت زمانه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " خلص " بفتح اللام يقال: خلص فلان إلى فلان أي: وصل إليه، وضبطه بعضهم بضم اللام، وأظنه غير صحيح، وفي حديث المعراج: فلما خلصت لمستوى أي: وصلت وبلغت، وقد ضبط بفتح اللام.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إلى العذراء " وهي البكر، وأراد عبيد الله بن عدي بهذا الكلام أن علم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن مكتوما ولا خاصا، بل كان شائعا ذائعا حتى وصل إلى العذراء المخدرة في بيتها، فوصوله إليه مع حرصه عليه بالطريق الأولى.

                                                                                                                                                                                  قوله: " كما قلت " بفتح التاء خطاب لعبيد الله بن عدي، وجه التشبيه فيه بيان حال وصول علم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعني كما وصل علم الشريعة إليها من وراء الحجاب، فوصوله إليه بالطريق الأحرى.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ثم أبو بكر مثله " أراد ثم صحبت أبا بكر رضي الله تعالى عنه، وما عصيته، وما غششته مثل ما فعلت مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ثم عمر مثله " يعني ثم صحبت عمر أيضا فما فعلت شيئا من ذلك.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ثم استخلفت " على صيغة المجهول.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أفليس لي " الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار أي: أفليس لي عليكم من الحق مثل الذي كان لهم علي.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قلت بلى " القائل هو عبيد الله بن عدي.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فما هذه الأحاديث " جمع أحدوثة، وهي ما يتحدث به، وهي التي كانوا يتكلمون بها من تأخيره إقامة الحد على الوليد.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ثم دعا عليا " هو علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فأمره أن يجلده أي: فأمر عثمان عليا أن يجلد الوليد بن عقبة، ويجلده بالضمير المنصوب في رواية الكشميهني. وفي رواية غيره: أن يجلد بلا ضمير.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فجلده ثمانين " وفي رواية معمر: فجلد الوليد أربعين جلدة. قيل: هذه الرواية أصح من رواية يونس، والوهم فيه من الراوي عنه شبيب بن سعيد، والمرجح لرواية معمر ما رواه مسلم من طريق أبي ساسان قال: شهدت عثمان أتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم، فشهد عليه رجلان أحدهما حمران، يعني مولى عثمان بن عفان أنه قد شرب الخمر، فقال عثمان: قم يا علي فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: [ ص: 205 ] ول حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده، فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي. انتهى.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): من الشاهد الآخر الذي لم يسم في هذه الرواية؟

                                                                                                                                                                                  قلت: قيل: هو الصعب بن جثامة الصحابي المشهور، رواه يعقوب بن سفيان في (تاريخه)، وعند الطبري من طريق سيف في (الفتوح) أن الذي شهد عليه ولد الصعب، واسمه جثامة كاسم جده، وفي رواية أخرى أن ممن شهد عليه أبا زينب بن عوف الأزدي، وأبا مورع الأسدي أبو زينب اسمه زهير بن الحارث بن عوف بن كاسي الحجر. وقال أبو عمر: من ذكره في الصحابة فقد أخطأ، ليس له شيء يدل على ذلك، وأبو المورع... وذكر المسعودي في (المروج) أن عثمان قال للذين شهدوا: ما يدريكم أنه شرب الخمر؟ قالوا: هي التي كنا نشربها في الجاهلية، وذكر الطبري أن الوليد ولي الكوفة خمس سنين. قالوا: وكان جوادا فولى عثمان بعده سعيد بن العاص، فسار فيهم سيرة عادلة، وكانت تولية عثمان سعيد بن العاص الكوفة في سنة ثلاثين من الهجرة، وفتح سعيد هذا طبرستان في هذه السنة، وقال الواقدي: لما ولى عثمان سعيد بن العاص الكوفة وقدمها قال: لا أصعد المنبر حتى تغسلوه من آثار الوليد الفاسق، فإنه نجس فاغسلوه، ثم ظهرت بعد ذلك من سعيد بن العاص هنات.

                                                                                                                                                                                  واحتج أصحابنا بهذا الحديث أن حد السكران من شرب الخمر وغيرها من الأنبذة ثمانون جلدة. وقال الشافعي: أربعون جلدة، وبه قال أحمد في رواية؛ لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد، والنعال، وضرب أبو بكر أربعين.

                                                                                                                                                                                  قلنا: ما رواه كان بجريدتين والنعلين، فكان كل ضربة بضربتين، والذي يدل على هذا قول أبي سعيد: جلد على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الخمر بنعلين، فلما كان في زمن عمر رضي الله تعالى عنه جعل بدل كل نعل سوطا. رواه أحمد.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية