الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات :

                                                                                                                                                                                                                              الأول : الحكمة في كون البيت من قصب وهو أنابيب الجوهر أنها حازت قصب السبق إلى الإسلام ، وهو شدة المسارعة إليه دون غيرها -رضي الله تعالى عنها- قال السهيلي : النكتة في قوله : "من قصب" ولم يقل : من لؤلؤ ، أن في لفظ (القصب) مناسبة؛ لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها ، زاد غيره مناسبة أخرى من جهة استواء أكثر أنابيبه ، وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها؛ إذ كانت حريصة على رضاه بكل ما أمكن ، ولم يصدر منها ما يغضبه قط كما وقع لغيرها .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (ببيت) قال أبو بكر الإسكاف في "فوائد الأخبار" : المراد بيت زائد على ما أعد الله -عز وجل- لها من ثواب عملها؛ ولهذا قال : (لا نصب) أي : لم تتعب بسببه . وقال السهيلي- رحمه الله- : لذكر البيت معنى لطيف؛ لأنها كانت ربة بيت قبل المبعث ، فصارت ربة بيت في الإسلام منفردة به ، لم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيت في الإسلام إلا بيتها ، وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضا غيرها . قال : وجزاء الفعل يذكر غالبا بلفظه ، وإن كان أشرف منه؛ فلهذا جاء في الحديث بلفظ "البيت" دون لفظ القصر .

                                                                                                                                                                                                                              زاد غيره معنى آخر ، وهو أن مرجع أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليها لما نبئت في تفسير قوله تعالى : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت [الأحزاب : 33] .

                                                                                                                                                                                                                              قالت أم سلمة : "لما نزلت دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة ، وعليا ، والحسن ، والحسين ، فجللهم بكساء ، فقال : "اللهم هؤلاء أهل بيتي"
                                                                                                                                                                                                                              رواه الترمذي .

                                                                                                                                                                                                                              ومرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة -رضي الله تعالى عنها- لأن الحسن والحسين من فاطمة ، وفاطمة ابنتها ، وعلي نشأ في بيتها وهو صغير ، ثم تزوج ابنتها بعدها ، فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها رضي الله تعالى عنها .

                                                                                                                                                                                                                              وأصل (قصب السبق) أنهم كانوا ينصبون في حلبة السباق قصبة لمن سبق اقتلعها وأخذها ليعلم أنه السابق من غير نزاع ، ثم كثر حتى أطلق على المبرز والمشمر .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : اختلف هل الأفضل خديجة أو عائشة ؟ وهل الأفضل مريم بنت عمران أو فاطمة بنت محمد -صلى الله عليه وسلم- وهل الأفضل فاطمة أو خديجة أو عائشة ؟

                                                                                                                                                                                                                              اعلم -أعزك الله تعالى- أن النقل في ذلك عزيز جدا ، وقد تعرض لذلك شيخ الإسلام وقدوة العلماء الأعلام الشيخ أبو الحسن تقي الدين السبكي -رحمه الله تعالى- وشفى الغليل في فتاويه الحلبيات ، وهي المسائل التي سأله عنها علامة حلب ، وترسلها الشيخ والإمام شهاب الدين الأذرعي ، وهو في مجلد لطيف فيه نفائس لا تكاد توجد في غيره ، وشيخنا الإمام [ ص: 161 ] الحافظ شيخ الإسلام جلال الدين السيوطي -رحمهما الله تعالى- وقد اقتضب شيخنا من كلام السبكي ما هو المقصود هنا .

                                                                                                                                                                                                                              فقال : قال النووي في روضته : من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- تفضيل زوجاته على سائر النساء ، قال تعالى : يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن [الأحزاب : 32] . قال السبكي : وعبارة القاضي الحسين : نساؤه أفضل نساء العالمين ، وعبارة القمولي : خير نساء هذه الأمة ، قال : وعبارة الروضة تحتملهما ، ويلزم من كونهن خير نساء هذه الأمة أن يكن خير نساء الأمم؛ لأن هذه الأمة خير الأمم ، والتفضيل على الأفضل تفضيل كل فرد على من هو دونه .

                                                                                                                                                                                                                              قال : إلا أنه يلزم من تفضيل الجملة على الجملة تفضيل كل فرد على كل فرد ، وقد قيل بنبوة مريم وآسية ، وأم موسى ، فإن ثبت خصت من العموم .

                                                                                                                                                                                                                              قال في الروضة : أفضل الأزواج خديجة وعائشة ، وفي التفضيل بينهما أوجه ، ثالثها الوقف ، كذا حكى الخلاف بلا ترجيح ، وقد رجح السبكي تفضيل خديجة كما سأذكره .

                                                                                                                                                                                                                              قال القمولي : وقد تكلم الناس في عائشة وفاطمة أيها أفضل ، على أقوال ، ثالثها الوقف .

                                                                                                                                                                                                                              قال الصعلوكي : من أراد أن يعرف التفاوت بينهما فليتأمل في زوجته وابنته . قال شيخنا : الصواب القطع بتفضيل فاطمة ، وصححه السبكي ، قال في الحلبيات : قال بعض من يعتد به بأن عائشة أفضل من فاطمة ، وهذا قول من يرى أن أفضل الصحابة زوجاته؛ لأنهن معه في درجته في الجنة التي هي أعلى الدرجات ، وهو قول ساقط مردود وضعيف ، لا سند له من نظر ولا نقل ، والذي نختاره وندين الله تعالى به أن فاطمة أفضل ، ثم خديجة ، ثم عائشة ، وبه جزم ابن المغربي في روضته .

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال السبكي : والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة : "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ، أو سيدة نساء هذه الأمة" .

                                                                                                                                                                                                                              وما رواه النسائي بسند صحيح من أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد" .

                                                                                                                                                                                                                              واستدل شيخنا في شرحه بما ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة حين قالت له : قد رزقك الله خيرا منها ، قال : "لا ، والله! ما رزقني الله خيرا منها" الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              وسئل أبو داود : أيهما أفضل خديجة أم فاطمة ؟ فقال : خديجة أقرأها النبي -صلى الله عليه وسلم- السلام من ربها ، وعائشة أقرأها السلام من جبريل ، فالأولى أفضل ، فقيل له : من الأفضل خديجة أم فاطمة ؟ فقال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : "فاطمة بضعة مني" ولا أعدل ببضعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدا .

                                                                                                                                                                                                                              وأما خبر "خير نساء العالمين مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، ثم فاطمة ابنة محمد ، ثم آسية امرأة فرعون" فأجيب عنه بأن خديجة -رضي الله تعالى عنها- إنما فضلت على فاطمة باعتبار الأمومة لا باعتبار السيادة . ثم قال السبكي : وهذا صريح في أنها وأمها أفضل [ ص: 162 ] نساء أهل الجنة . والحديث الأول يدل على تفضيلها على أمها .

                                                                                                                                                                                                                              وقد قال -صلى الله عليه وسلم- : "فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها ، ويؤذيني ما آذاها" .

                                                                                                                                                                                                                              وفي الصحيح من حديث علي -رضي الله تعالى عنه- مرفوعا : "خير نساء أهل زمانها مريم بنت عمران ، خير نساء زمانها خديجة بنت خويلد" أي : خير نساء الدنيا ، فهذا يقتضي أن مريم وخديجة أفضل النساء مطلقا ، فمريم أفضل نساء أهل زمانها وخديجة أفضل نساء زمانها ، وليس فيه تعرض لفضل إحداهما على الأخرى .

                                                                                                                                                                                                                              وقد علمت أن مريم اختلف في نبوتها ، فإن كانت نبية فهي أفضل ، وإن لم تكن نبية فالأقرب أنها أفضل لذكرها في القرآن ، وشهادته بصديقيتها .

                                                                                                                                                                                                                              وأما بقية الأزواج فلا يبلغن هذه الرتبة وإن كن خير نساء الأمة بعد هؤلاء الثلاث ، وهن متقاربات في الفضل ، لا يعلم حقيقة ذلك إلا الله تعالى ، لكنا نعلم لحفصة بنت عمر -رضي الله تعالى عنها- من الفضائل كثيرا ، فما أشبه أن تكون هي بعد عائشة . انتهى كلام السبكي ، والكلام في التفضيل صعب ، فلا ينبغي التكلم إلا بما ورد ، والسكوت عما سواه ، وحفظ الأدب .

                                                                                                                                                                                                                              قال شيخنا : ولم يتعرض للتفضيل بين مريم وفاطمة ، والذي أختاره تفضيل فاطمة ، في مسند الحارث بن أسامة بسند صحيح لكنه مرسل : "مريم خير نساء عالمها ، وفاطمة خير نساء عالمها" أخرجه الترمذي موصولا من حديث علي -رضي الله تعالى عنه- : "خير نسائها مريم ، وخير نسائها فاطمة" قال الحافظ ابن حجر : والمرسل يعضد المتصل .

                                                                                                                                                                                                                              وروى النسائي عن حذيفة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : "هذا ملك من الملائكة استأذن ربه ليسلم علي ويبشرني أن حسنا وحسينا سيدا شباب أهل الجنة ، وأمهما سيدة نساء أهل الجنة" . انتهى كلام الشيخ -رحمه الله تعالى- في شرحه لنظم جمع الجوامع .

                                                                                                                                                                                                                              وقال في كتابه : (إتمام الدراية) : ونعتقد أن أفضل النساء مريم بنت عمران ، وفاطمة بنت محمد ، ثم أورد حديث علي ، وحديث حذيفة السابقين ، ثم قال : في ذلك دلالة على تفضيلها على مريم بنت عمران ، خصوصا إذا قلنا بالأصح : إنها ليست نبية ، وقد تقدر أن هذه الأمة أفضل من غيرها .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وحاصل الكلام السابق أن السبكي اختار أن السيدة فاطمة أفضل من أمها ، وأن أمها أفضل من عائشة ، وأن مريم أفضل من خديجة ، واختار شيخنا أن فاطمة أفضل من مريم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال القاضي قطب الدين الخضري -رحمه الله تعالى- في الخصائص ، بعد أن ذكر في التفضيل بين خديجة ومريم : إذا علمت ذلك فينبغي أن يستثنى من إطلاق التفضيل سيدتنا فاطمة ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهي أفضل نساء العالم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "فاطمة بضعة مني" ولا يعدل ببضعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد .

                                                                                                                                                                                                                              وسئل الإمام أبو بكر عمر ابن إمام أهل الظاهر داود : هل [ ص: 163 ] خديجة أفضل أم فاطمة ؟ فقال : الشارع قال [فاطمة بضعة مني] قال الشيخ تقي الدين المقريزي في الخصائص النبوية في كتابه (إمتاع الأسماع) : إن قلنا بنبوة مريم كانت أفضل من فاطمة ، وإن قلنا : إنها ليست بنبية احتمل أنها أفضل للخلاف في نبوتها ، واحتمل التسوية بينهما؛ تخصيصا لهما بأدلتهما الخاصة من بين النساء ، واحتمل تفضيل فاطمة عليها وعلى غيرها من النساء؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم- : "فاطمة بضعة مني" وبضعة النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعدل بها شيء ، وهو أظهر الاحتمالات لمن أنصف .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الزركشي في الخادم عند قول الرافعي والنووي : "وتفضيل زوجاته -صلى الله عليه وسلم- على سائر النساء" ما نصه : هل المراد نساء هذه الأمة أو النساء كلهن ؟ فيه خلاف ، حكاه الروياني ، ويستثنى من الخلاف سيدتنا فاطمة ، فهي أفضل نساء العالم؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم- : "فاطمة بضعة مني" ولا يعدل ببضعة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد . وفي الصحيح : "بضعة مني ، أما ترضين أن تكوني خير نساء هذه الأمة" انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية