الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الثالث في عصمته- صلى الله عليه وسلم- قبل النبوة وبعدها كغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي - رحمه الله تعالى- : الصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله تعالى وصفاته والتشكك في شيء من ذلك ، وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا ونشأتهم على التوحيد والإيمان ، بل على إشراق أنوار المعارف ونفحات ألطاف السعادة كما نبهنا عليه في الباب الثاني من القسم الأول .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وقد أوردت في باب [ . . . . ] ما فيه كفاية .

                                                                                                                                                                                                                              ولم ينقل عن أحد من أهل الأخبار أن أحدا نبئ واصطفي ممن عرف بكفر وإشراك قبل ذلك ، ومستند هذا الباب النقل ، وقد استدل بعضهم بأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله .

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي : وأنا أقول : قد رمت قريش نبينا- صلى الله عليه وسلم- بكل ما افترته وعير [ ص: 455 ]

                                                                                                                                                                                                                              كفار الأمم وأنبيائها بكل ما أمكنها ، واختلقته مما نص الله تعالى عليه أو نقلته إلينا الرواة ، ولم نجد في شيء من ذلك تعييرا لواحد منهم برفضه آلهته وتقريعه بذمه بترك ما كان قد جامعهم عليه .

                                                                                                                                                                                                                              ولو كان هذا لكانوا بذلك مبادرين ، وبتلونه في معبوده محتجبين ، ولكان توبيخهم له بنهيهم عما كان يعبد قبل أفظع وأقطع في الحجة من توبيخه بنهيهم عن تركهم آلهتهم وما كان يعبد آباؤهم من قبل ، ففي إطباقهم على الإعراض عنه دليل على أنهم لم يجدوا سبيلا إليه ، إذ لو كان لنقل وما سكتوا عنه ، كما لم يسكتوا عن تحويل القبلة ، وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها [البقرة 142] كما حكاه الله تعالى عنهم ، وقد استدل القاضي القشيري على تنزيههم عن هذا بقوله تعالى : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم [الأحزاب 7] وبقوله وإذ أخذ الله ميثاق النبيين إلى قوله : لتؤمنن به ولتنصرنه [آل عمران 81] قال : فطهره الله تعالى في الميثاق وبعيد أن يأخذ منه الميثاق قبل خلقه ، ثم أخذ ميثاق النبيين بالإيمان به ونصره قبل مولده بدهور ، ويجوز عليه الشرك أو غيره من الذنوب هذا ما لا يجوزه إلا ملحد .

                                                                                                                                                                                                                              هذا معنى كلامه .

                                                                                                                                                                                                                              وكيف يكون ذلك وقد أتاه جبرائيل - عليه السلام- وشق قلبه صغيرا واستخرج منه علقة ، وقال : هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله وملأه حكمة وإيمانا [كما تظاهر أخبار المبدإ] وكيف يكون نبيا وآدم بين الروح والجسد ، ثم يجوز عليه شيء من النقائص التي نزه الله تعالى عنها أنبياءه ، وهذا ما لا يقوله إلا جاهل أو معاند .

                                                                                                                                                                                                                              فصل

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي : واختلف في عصمتهم من المعاصي قبل النبوة ، فمنعها قوم ، وجوزها قوم آخرون .

                                                                                                                                                                                                                              والصحيح إن شاء الله تعالى تنزيههم من كل عيب ، وعصمتهم من كل ما يوجب الريب ، فكيف والمسألة تصورها كالممتنع ، فإن المعاصي والنواهي إنما تكون بعد تقرر الشرع ، ثم ذكر اختلاف الناس في حال النبي- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يوحى إليه هل كان متبعا لشرع قبله أم لا ؟ وقد تقدم الكلام على ذلك مبسوطا في أبواب عبادته- صلى الله عليه وسلم- .

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال : هذا حكم ما يكون المخالفة فيه من الأعمال عن قصد ، وهو ما يسمى معصية ، ويدخل تحت التكليف ، ثم ذكر الكلام على عصمتهم من السهو والنسيان . [ ص: 456 ]

                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات

                                                                                                                                                                                                                              الأول : قال ابن سيده عصمه يعصمه عصما وقاه ، وفي التنزيل لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم [هود 43] أي : لا معصوم إلا المرحوم انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              والمراد بالعصمة هنا : منع الأنبياء من المعاصي .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : قال القاضي : ولا يشبه عليك بقول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام- في الكوكب والقمر والشمس هذا ربي فإنه قد قيل : هذا في سن الطفولية وابتداء النظر والاستدلال [وقبل لزوم التكليف] .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : قال أبو محمد بن حزم : هذا القول خرافة موضوعة ظاهرة الافتعال ، ومن المحال الممتنع ، وقد أكذب الله تعالى هذا بقوله الصادق ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين [الأنبياء 51] فكيف يدخل في عقله أن الكوكب والشمس والقمر ربه من أجل أنها أكبر قرصا من القمر ، هذا ما لا يظنه إلا سخيف العقل [ . . . . ] .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : قال القاضي : فإن قلت ما معنى قوله لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين [الأنعام 77] قيل : إنه إن لم يؤيدني الله بمعونته أكن مثلكم في ضلالتكم وعبادتكم على معنى الإشفاق والحذر وإلا فهو معصوم في الأزل من الضلال .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع : قال القاضي : فإن قلت : ما معنى قوله تعالى وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا [إبراهيم 13] ثم قال تعالى بعد ذلك عن الرسل قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها [الأعراف 89] فلا يشكل عليك لفظة العود وأنها تقتضي أنهم إنما يعودون إلى ما كانوا فيه من ملتهم ، فقد تأتي هذه اللفظة في كلام العرب لغير ما ليس ابتداء بمعنى الصيرورة ، كما جاء في حديث الجهنميين عادوا حمما ولم يكونوا قبل كذلك .

                                                                                                                                                                                                                              ومثله قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                              تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

                                                                                                                                                                                                                              وما كان قبل ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حيان : [ . . . . ] .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس : الحديث الذي يرويه عثمان بن أبي شيبة ، عن جابر رضي الله عنه أن [ ص: 457 ] النبي- صلى الله عليه وسلم- قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم فسمع ملكين خلفه ، أحدهما يقول لصاحبه : اذهب حتى تقوم خلفه فقال الآخر : كيف أقوم خلفه وعهده باستلام الأصنام ؟ فلم يشهدهم بعد .

                                                                                                                                                                                                                              [فهذا حديث] أنكره الإمام أحمد جدا ، وقال : هو موضوع أو شبيه بالموضوع .

                                                                                                                                                                                                                              وأما عصمتهم بعد النبوة ، فقد قال القاضي : اعلم أن الطوارئ من التغيرات والآفات على آحاد البشر لا يخلو أن تطرأ على جسمه أو حواسه بغير قصد واختيار ، كالأمراض والأسقام ، أو بقصد واختيار ، وكله في الحقيقة عمل وفعل ، ولكن جرى رسم المشايخ بتفصيله إلى ثلاثة أنواع : [عمل بالجوارح ، وعقد بالقلب ، وقول باللسان] .

                                                                                                                                                                                                                              الأول : عمل بالجوارح وجميع البشر تطرأ عليهم الآفات والتغيرات بالاختيار وبغير الاختيار في هذه الوجوه كلها .

                                                                                                                                                                                                                              والنبي- صلى الله عليه وسلم- وإن كان من البشر ، ويجوز على جبلته ما يجوز على جبلة البشر . فقد قال : قامت البراهين القاطعة ، وتمت كلمة الإجماع على خروجه عنهم وتنزيهه عن كثير من الآفات التي تقع على الاختيار وعلى غير الاختيار ، كما سنبينه- إن شاء الله تعالى- فيما يأتي من التفاصيل .

                                                                                                                                                                                                                              والكلام على ذلك يتضمن ثلاثة فصول :

                                                                                                                                                                                                                              الفصل الأول في حكم عقد قلب النبي- صلى الله عليه وسلم-[من وقت نبوته] قال القاضي : اعلم أن ما تعلق منه بطريق التوحيد والعلم بالله وصفاته ، والإيمان به ، وبما أوحى إليه ، فعلى غاية المعرفة ، ووضوح العلم واليقين والانتفاء عن الجهل بشيء من ذلك ، أو الشك ، أو الريب فيه ، والعصمة من كل ما يضاد المعرفة بذلك اليقين .

                                                                                                                                                                                                                              هذا ما وقع إجماع المسلمين عليه ، ولا يصح بالبراهين الواضحة أن يكون في عقود الأنبياء سواه ، ولا يعترض على هذا بقول إبراهيم عليه السلام قال بلى ولكن ليطمئن قلبي .

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي : وذهب معظم الحذاق من العلماء المفسرين إلى أنه إنما قال ذلك تبكيتا لقومه ، ومستدلا عليهم .

                                                                                                                                                                                                                              قيل : معناه الاستفهام الوارد مورد الإنكار ، والمراد : فهذا ربي .

                                                                                                                                                                                                                              قال الزجاج : قوله هذا ربي [الأنعام 76] على قولكم : كما قال تعالى أين شركائي [النحل 27] أي : عندكم ويدل على أنه لم يعبد شيئا من ذلك ولا أشرك قط بالله [ ص: 458 ]

                                                                                                                                                                                                                              طرفة عين ، قول الله تعالى عنه إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون [الصافات 85] ثم قال :

                                                                                                                                                                                                                              أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين [الشعراء 75 ، 76 ، 77] وقال تعالى جاء ربه بقلب سليم [الصافات 84] أي : من الشرك وقوله : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [إبراهيم 35] .

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو محمد بن حزم : الصحيح من ذلك أنه- عليه الصلاة والسلام- إنما قال ذلك توبيخا لقومه كما قال ذلك لهم في الكبير من الأصنام ولا فرق أنهم كانوا على دين الصابئين] يعبدون الكواكب ويصورون الأوثان على صورها وأسمائها في هياكلهم ويعيدون لها الأعياد ويذبحون لها الذبائح ويقربون لها القرابين ، ويقولون : إنها تقبل وتدبر ، وتضر وتنفع ، ويقيمون لكل كوكب منها شريعة محدودة ، فوبخهم الخليل- صلى الله عليه وسلم- على ذلك ، وسخر منهم وجعل يريهم تعظيم الشمس ، لكبر جرمها كما قال تعالى : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون [المطففين 34] فأراهم ضعف عقولهم في تعظيمهم لهذه الأجرام الجمادية ، وبين لهم أنها مدبرة تنتقل في الأماكن ، ومعاذ الله أن يكون الخليل أشرك قط أو شك أن الفلك بما فيه غير مخلوق ، ويؤيد قولنا هذا أن الله تعالى لم يعاتبه على شيء ركونا ولا عنفه على ذلك ، بل وافق مراد الله تعالى بما قال من ذلك وبما فعل ، قاله الطوفي . [ ص: 459 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية