الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب التاسع في بعض فضائل أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه -

                                                                                                                                                                                                                                وفيه أنواع :

                                                                                                                                                                                                                                  الأول : في مولده .

                                                                                                                                                                                                                                ولد في السنة السادسة بعد الفيل ، بويع له بالخلافة غرة المحرم سنة أربع وعشرين ، وكانت خلافته ثنتي عشرة سنة إلا ليالي .

                                                                                                                                                                                                                                الثاني : في أنه أحد العشرة المبشرة بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى التي جعلها عمر - رضي الله تعالى عنه - بينهم ، وقال : لا أحمل أمركم حيا وميتا وإن يرد الله بكم خيرا يجمعكم على خير هؤلاء كما جمعكم على خيركم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : ما أظن الناس يعدلون بعثمان وعلي أحدا إنهما كانا يكتبان الوحي بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم : عثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، فلما مات عمر - رضي الله تعالى عنه - وأحضرت جنازته تبادر إليه علي وعثمان أيهما يصلي عليه فقال لهما عبد الرحمن بن عوف : لستما من هذا في شيء ، إنما هذا في صهيب الذي أمره أمير المؤمنين عمر يصلي بالناس فتقدم صهيب - وصلى عليه فلما فرغ شأن عمر - رضي الله تعالى عنه - جمعهم المقداد بن الأسود في بيت المسور بن مخرمة ، وقيل : في حجرة عائشة ، وقيل : في بيت المال ، وقيل : في بيت فاطمة بنت قيس ، والأول أشبه ، وقام أبو طلحة يحجبهم ، ثم صار الأمر إلى أن فوض الأمر الزبير إلى علي وسعد إلى عبد الرحمن بن عوف ، وطلحة لعثمان ، ثم قال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنه - : فإني أترك حقي من ذلك والله على أن أجتهد والإسلام ، فأولي أولاكما بالحق ، فقالا : نعم ، ثم خاطب كل واحد منهما بما فيه من الفضل ، وأخذ عليه العهد والميثاق إن ولاه ليعدلن ، ولئن ولي عليه ليسمعن ، فقال كل منهما : نعم ، ثم نهض عبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنه - يتشير الناس فيهما ، ويجتمع برؤوس الناس وغيرهم مثنى وفرادى ، وجمعا وأشتاتا ، سرا وجهرا ، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن ، وحتى سأل الولدان في المكاتب ، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليهن ، فلم يجد اثنين مختلفين في تقديم عثمان إلا ما ينقل عن عمار والمقداد ، فإنهما أشارا لعلي بن أبي طالب ، ثم بايعا مع الناس ، فسعى عبد الرحمن في تلك الأيام ، واجتهد اجتهادا كثيرا ، ثم صعد منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام على الدرجة التي يجلس عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووقف وقوفا طويلا ودعا دعاء طويلا ، ثم قال : أيها الناس ، قد سألتكم سرا ، وجهرا ، مثنى وفرادى ، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين [ ص: 278 ] الرجلين ، فقم إلي يا علي ، فقام إليه فوقف تحت المنبر فأخذ عبد الرحمن بيده ، فقال : هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وفعل أبي بكر وعمر ؟ فقال : اللهم لا ، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي ، فأرسل يده ، وقال : قم يا عثمان ، فقال : هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفعل أبي بكر وعمر ؟ قال : اللهم نعم ، قال : فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان فقال : اللهم اسمع واشهد ، اللهم اسمع واشهد ، اللهم اسمع واشهد ، اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان ، وازدحم الناس يبايعون عثمان وبايعه علي بن أبي طالب أولا ، ويقال آخرا ، هذا الذي يجب الاعتماد إليه ، وأما ما هو مسطور في كتب المؤرخين وأرباب السير فلا يعرج عليه ، ثم إن عثمان - رضي الله تعالى عنه - لما بويع رقى إلى منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر أو قبل الزوال يومئذ وعبد الرحمن جالس في رأس المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقال : أيها الناس : إنكم في بقية آجالكم ، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه ، ولا تغرنكم الحياة الدنيا ، ولا يغرنكم بالله الغرور ، واعتبروا بمن مضى من القرون وانقضى ثم جدوا ولا تغفلوا أين أبناء الدنيا وإخوانها ؟ أين الذين شيدوها وعمروها وتمتعوا بها طويلا ؟ ألم تلفظهم ؟ ارموا بالدنيا حيث رمى الله عز وجل ، واطلبوا الآخرة حيث رغب الله - عز وجل - فيها ، فإن الله - سبحانه وتعالى - قد ضرب لكل مثلا ، فقال سبحانه وتعالى : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا [الكهف 45 ] .

                                                                                                                                                                                                                                وفي لفظ : لما بويع له خرج إلى الناس فخطبهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، اتقوا الله ، فإن تقوى الله غنم ، وإن أكيس الناس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، وفي خطبة أخرى : قال ابن آدم اعلم أن ملك الموت الذي وكل بك لم يزل يخلفك ويتخطاك إلى غيرك منذ أتيت في الدنيا ، وكأنه قد تخطى غيرك إليك وقصدك فخذ حذرك واستعد له ولا تغفل ، فإنه لا يغفل عنك ، واعلم أنك إن غفلت عن نفسك ولم تستعد فلا بد من لقاء الله ، فخذ لنفسك ولا تكلها إلى غيرك ، والسلام .

                                                                                                                                                                                                                                وفي أخرى : إن الله أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة ، ولم يعطيكموها لتركنوا إليها ، إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى ، فلا تشتغلوا بالفانية عن الباقية وآثروا ما يبقى على ما يفنى ، فإن الدنيا منقطعة ، وإن المصير إلى الله ، واتقوا الله فإن تقواه جنة من عذابه ووسيلة عنده ، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء ، فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا .

                                                                                                                                                                                                                               

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية