الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذه الآية الكريمة في سورة النور ، وقبل قوله : والذين يبتغون وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون وبعده : ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إلى قوله : غفور رحيم ولما ذكر الله تعالى تزويج الحرائر والإماء والأحرار والعبيد ذكر حال من يعجز عن ذلك ثم قال : والذين يبتغون أي يطلبون من البغية وهو الطلب ، قال الزمخشري : " والذين يبتغون " مرفوع على الابتداء أو منصوب بفعل مضمر يفسره " فكاتبوهم " كقولك : زيدا فاضربه ، ودخلت الفاء لتضمن معنى الشرط ، قوله : " الكتاب " منصوب ، وإنه مفعول " يبتغون " الكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة ، وهي مفاعلة بين اثنين ، وهما السيد وعبده ، فيقال : كاتب يكاتب مكاتبة وكتابا كما يقال : قاتل يقاتل مقاتلة وقتالا ، ومعنى " يبتغون الكتاب " أي المكاتبة ، قوله : " فكاتبوهم " خبر المبتدأ " والذين يبتغون " ، ثم إن هذا الأمر عند الجمهور على الندب ، وقال داود على الوجوب إذا سأله العبد أن يكاتبه ، وروي ذلك عن عكرمة أيضا ، وقال عطاء : يجب عليه إن علم أن له مالا ، وفي تفسير النسفي : وقيل : هو أمر إيجاب فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم منه خيرا إذا سأله ذلك بقيمته وأكثر وهو قول داود ، ومحمد بن جرير من الفقهاء ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، واحتج من نصر هذا القول بما روى قتادة أن سيرين سأل أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن يكاتبه فلكأ عليه فشكاه إلى عمر رضي الله تعالى عنه ، فعلاه بالدرة ، وأمره بالكتابة على ما يجيء ، واحتجوا أيضا بأن هذه الآية نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له : صبيح ، سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية فكاتبه حويطب على مائة دينار ، ووهب له منها عشرين دينارا ، فأداها وقتل يوم حنين في الحرب انتهى ، ( قلت ) : سيرين بكسر السين المهملة مولى أنس بن مالك وهو من سبي عين التمر الذين أسرهم خالد بن الوليد رضي الله عنه ، قوله : " فلكأ عليه " أي توقف وتباطأ ، وكذلك تلكأ قوله : " فعلاه بالدرة " وهي بكسر الدال وتشديد الراء وهي الآلة التي يضرب بها ، وقصة سيرين رواها ابن سعد فقال : أخبرنا محمد بن حميد العبدي ، عن معمر ، عن قتادة قال : سأل سيرين أبو محمد أنس بن مالك الكتابة فأبى أنس فرفع عمر بن الخطاب عليه الدرة ، وقال : كاتبه فكاتبه ، وقال : أخبرنا معمر بن عيسى ، حدثنا محمد بن عمرو سمعت محمد بن سيرين كاتب أنس أبي على أربعين ألف درهم ، وحويطب بن عبد العزى القرشي العامري أبو محمد ، وقيل : أبو الأصبع من المؤلفة قلوبهم ، شهد حنينا ثم حمد إسلامه ، وعمر مائة وعشرين سنة ، وله رواية ، وصبيح غلامه بفتح الصاد المهملة وكسر الباء الموحدة ، وقصته رواها سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق ، عن خالد عبد الله بن صبيح ، عن أبيه قال : كنت مملوكا لحويطب فسألته فنزلت والذين يبتغون الآية ، [ ص: 118 ] وحجة الجمهور في هذا أن الإجماع منعقد على أن السيد لا يجبر على بيع عبده ، وإن ضوعف له في الثمن ، وإذا كان كذلك فالأحرى والأولى أن لا يخرج عن ملكه بغير عوض لا يقال : إنها طريق العتق ، والشارع متشوف إليه ، فحالف البيع لأنا نقول : التشوف إنما هو في محل مخصوص ، وأيضا الكسب له فكأنه قال : أعتقني مجانا ، وأما الآثار التي دلت على الوجوب فسيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                  قوله : " إن علمتم فيهم خيرا اختلفوا في المراد بالخير فقال الثوري : هو القوة على الاحتراف والكسب لأداء ما كوتبوا عليه ، وعن الليث مثله ، وكره ابن عمر كتابة من لا حرفة له ، وكذا روي عن سلمان ، وقال الحسن البصري : الصدق والأمانة والوفاء ، وقال بعضهم : الصلاح وإقامة الصلاة ، وقال مجاهد : المال ، وكذا نقل عن عطاء ، وأبي رزين ، وكذلك روي عن ابن عباس ، وفي المصنف : وكتب عمر إلى عمير بن سعد انه من قبلك من المسلمين أن يكاتبوا أرقاءهم على مسألة الناس ، وقال ابن حزم قالت طائفة : المال ، فنظرنا في ذلك فوجدنا موضوع كلام العرب الذي نزل به القرآن أنه لو أراد عز وجل المال لقال : إن علمتم لهم خيرا ، أو عندهم ، أو معهم خيرا ، لأن بهذه الحروف يضاف المال إلى من هو له في لغة العرب ، ولا يقال أصلا في فلان مال فعلمنا أنه تعالى لم يرد به المال ، فصح أنه الدين ، وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه سئل أأكاتب وليس لي مال ؟ فقال : نعم ، فصح عنده أن الخير عنده لم يكن المال ، وقال الطحاوي : من قال : إنه المال ، لا يصح عندنا ، لأن العبد نفسه مال لمولاه ، فكيف يكون له مال ؟ والمعنى عندنا : إن علمتم فيهم الدين والصدق وعلمتم أنهم يعاملونكم على أنهم متعبدون بالوفاء لكم بما عليهم من الكتابة والصدق في المعاملة فكاتبوهم ، قوله : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم أي أعطوهم من المال الذي أعطاكم الله تعالى اختلف في المخاطبين من هم ؟ فقيل : الأغنياء الذين يجب عليهم الزكاة ، أمروا أن يعطوا المكاتبين ، وقيل : السادة أمروا بإعانتهم ، وهو أن يحط عنهم من مال الكتابة شيئا ، واختلف في الإيتاء هل هو واجب ؟ فذهب الشافعي إلى أنه واجب ، وقال أبو حنيفة ومالك : ليس بواجب ، والأمر فيه على الندب والحض أن يضع الرجل عن عبده من مال كتابته شيئا مسمى به يستعين على الخلاص ، واختلفوا فيه أيضا هل هو مقدار معين ؟ فقال الشافعي : هو غير مقدر ، ولكنه واجب كما ذكرنا ، وهو المنقول عن سعيد بن جبير ، وقال أحمد : هو ربع المال ، وهو المروي أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، وعن ابن مسعود : الثلث ، وقال الزمخشري : " وآتوهم " أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين ، وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال كقوله : " وفي الرقاب " عند أبي حنيفة وأصحابه ، وقيل : معنى " وآتوهم " أسلفوهم ، وقيل : أنفقوا عليهم بعد أن يؤدوا أو يعتقوا ، وهذا كله مستحب ، وقال ابن بطال : قول الجمهور أولى لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأمر موالي بريرة بإعطائها شيئا ، وقد كوتبت وبيعت بعد الكتابة ، ولو كان الإيتاء واجبا لكان مقدرا كسائر الواجبات ، حتى إذا امتنع السيد من جعله ادعاه عند الحاكم ، فأما دعوى المجهول فلا يحكم بها ، ولو كان الإيتاء واجبا وهو غير مقدر لكان الواجب للمولى على المكاتب هو الباقي بعد الحط ، فأدى ذلك إلى جهل مبلغ الكتابة ، وذلك لا يجوز .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية