الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2343 [ ص: 26 ] 48 – حدثنا سعيد بن عفير ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثنا عقيل ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " ولا ينتهب نهبة... " إلى آخره . قيل : لا مطابقة هنا ; لأن الترجمة مقيدة بغير الإذن ، والحديث مطلق ، وأجيب بأن الحديث أيضا مقيد بعدم الإذن ، وذلك لأن رفع البصر إليه لا يكون عادة إلا عند عدم الإذن ، وهذا هو فائدة ذكر الرفع ، وهذا الجواب من الكرماني أخذه بعضهم ، ولم ينسبه إليه ، وأيضا قال الكرماني : فإن قلت : النهب لا يتصور إلا بغير إذن صاحبه فما فائدة التقييد به في الترجمة . ( قلت ) : المراد الإذن الإجمالي حتى يخرج منه انتهاب مشاع الهبة ونحوه من الموائد .

                                                                                                                                                                                  وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضا في الحدود ، عن يحيى بن بكير ، عن الليث ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن... إلى آخره ، وأخرجه مسلم في الإيمان ، عن عبد الملك بن شعيب ، عن الليث ، عن أبيه ، عن جده بإسناده نحوه . وأخرجه النسائي في الأشربة ، وفي الرجم ، عن عيسى بن حماد ، عن الليث ، به . وأخرجه ابن ماجه في الفتن ، عن عيسى بن حماد ، عن الليث... إلى آخره نحوه . وفي الباب عن أبي داود من حديث ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من انتهب نهبة فليس منا . وعند ابن حبان من حديث الحسن ، عن عمران بن حصين ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مثله . وعند الترمذي عن أنس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من انتهب نهبة فليس منا . وقال : حديث حسن صحيح ، وعند أحمد ، عن زيد بن خالد قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النهبة . وعند ابن حبان ، عن ثعلبة ، عن الحكم قال : انتهبنا غنما للعدو ، فنصبنا قدورنا فمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقدور فأمر بها فكفئت ثم قال : إن النهبة لا تحل . وروى ابن أبي شيبة من حديث عاصم بن كليب ، عن أبيه ، أخبرني رجل من الصحابة قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فأصابتنا مجاعة ، وأصبنا غنما فانتهبناها قبل أن يقسم فينا ، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم متوكئا على قوس ، فأكفأ قدورنا بقوسه ، وقال : ليست النهبة بأحل من الميتة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " لا يزني الزاني حين يزني " ، أي : لا يزني الشخص الذي يزني . قوله : " حين يزني " نصب على الظرف . قوله : وهو مؤمن ، جملة اسمية وقعت حالا ، قيل : معناه : والحال أنه مستكمل شرائع الإيمان ، وقيل : يزول منه الثناء بالإيمان لا نفس الإيمان . وقيل : يزول إيمانه إذا استمر على ذلك الفعل . وقيل : إذا فعله مستحلا يزول عنه الإيمان فيكفر . وقال ابن التين : قال البخاري : ينزع منه نور الإيمان . قوله : " ولا يشرب " ، فاعله محذوف . قال ابن مالك : فيه حذف الفاعل ، أي : لا يشرب الشارب ، وروي : لا يشرب الخمر ، بكسر الباء على معنى النهي ، يعني إذا كان مؤمنا فلا يفعل . قوله : " ولا يسرق " ، الكلام فيه مثل الكلام في لا يزني . قوله : " إليه " ، أي : إلى المنتهب ، يدل عليه قوله : " ولا ينتهب " . قوله : " فيها " ، أي : في النهبة . قوله : " أبصارهم " بالنصب ; لأنه مفعول يرفع الناس . قوله : " حين ينتهبها " ، نصب على الظرف ، أي : وقت انتهابها . قوله : " وهو مؤمن " ، جملة حالية ، وروى ابن أبي شيبة بإسناده ، عن ابن أبي أوفى ، يرفعه : ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع المسلمون إليها رءوسهم وهو مؤمن . وروى مسلم من حديث يونس عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا يزني الزاني... الحديث . وفيه قال ابن شهاب : فأخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن ، أن أبا بكر كان يحدثهم هؤلاء ، عن أبي هريرة ثم يقول : وكان أبو هريرة يلحق معهن ، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن . ثم روى من حديث عقيل بن خالد قال : قال ابن شهاب : وأخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أبي هريرة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يزني الزاني . واقتصر الحديث يذكر مع ذكر النهبة ، ولم يقل : ذات شرف ، ثم قال : وقال ابن هشام : حدثني سعيد بن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي بكر هذا : إلا النهبة . قوله : " وكان أبو هريرة يلحق " . بضم الياء من الإلحاق . قوله : " معهن " ، أي : مع قوله : " لا يزني " ، وقوله : [ ص: 27 ] ولا يشرب ، وقوله : ولا يسرق . قوله : ولا ينتهب ، في محل المفعولية لقوله : " ويلحق " ، على سبيل الحكاية . وقال النووي : ظاهر هذا أنه من كلام أبي هريرة موقوف عليه ، ولكن جاء في رواية أخرى تدل على أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وجمع الشيخ أبو عمرو بن الصلاح بما يؤول إليه ملخص كلامه أن معنى قول أبي هريرة : يلحق معهن ، ولا ينتهب... إلى آخره ، يعني يلحقها رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا من عند نفسه ، واختصاص أبي بكر بهذا لكونه بلغه أن غيره لا يرويها . قوله : " ذات شرف " في الأصول المشهورة المتداولة بالشين المعجمة المفتوحة ، ومعناه : ذات قدر عظيم ، وقيل : ذات استشراف ليستشرف الناس لها ناظرين إليها رافعين أبصارهم ، وقال القاضي عياض : ورواه إبراهيم الجويني بالسين المهملة ، وقال الشيخ أبو عمرو : وكذا قيده بعضهم في كتاب مسلم ، وقال : معناه أيضا ذات قدر عظيم ، فإن قلت : يعارض هذا الحديث حديث أبي ذر من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة ، وإن زنى ، وإن سرق . والأحاديث التي نظائره مع قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء مع إجماع أهل الحق على أن الزاني ، والسارق ، والقاتل ، وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك . ( قلت ) : هذا الذي دعاهم إلى أن قالوا : هذه الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ، يراد نفي كماله كما يقال : لا علم إلا بما نفع ، ولا مال إلا الإبل ، ولا عيش إلا عيش الآخرة ، ثم إن مثل هذا التأويل ظاهر شائع في اللغة يستعمل كثيرا ، وبهذا يحصل الجمع بينه وبين ما ذكر من الحديث والآية ، وتأوله بعض العلماء على من فعل ذلك مستحلا مع علمه بورود الشرع بتحريمه .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية