الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2345 50 - حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ، عن يزيد بن أبي عبيد ، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نيرانا توقد يوم خيبر ، قال : على ما توقد هذه النيران ؟ قالوا : على الحمر الإنسية . قال : اكسروها ، وأهرقوها . قالوا : ألا نهريقها ونغسلها ؟ قال : اغسلوا .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله : " اكسروها " ، أي : القدور ، يدل عليه السياق فلا يكون إضمارا قبل الذكر ، وكسر القدور هنا في الحكم مثل كسر الدنان التي فيها الخمر . ورجاله ثلاثة قد ذكروا غير مرة ، وهو من تاسع ثلاثيات البخاري ، وأخرجه البخاري أيضا في المغازي عن القعنبي ، وفي الأدب عن قتيبة ، وفي الذبائح عن مكي بن إبراهيم ، وفي الدعوات عن مسدد عن يحيى ، وأخرجه مسلم في المغازي ، وفي الذبائح عن قتيبة ، ومحمد بن عباد ، وفي الذبائح عن إسحاق بن إبراهيم ، وأخرجه ابن ماجه في الذبائح عن يعقوب بن حميد .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) . قوله : " يوم خيبر " ، يعني في غزوة خيبر ، وكانت سنة سبع ، ومن خيبر إلى المدينة أربع مراحل . قوله : " اكسروها " ، أي : القدور ، وقد مر الآن الكلام فيه . قوله : " على الحمر الإنسية " ، الحمر بضمتين جمع حمار ، وأراد بالإنسية الحمر الأهلية . قوله : " وأهريقوها " ، بسكون الهمزة ، وجاز حذف الهمزة أو الهاء ، والياء . ونهريقها ، بفتح الهاء ، وسكونها ، وبسكون الهاء ، وحذف الياء . قال الجوهري : هرق الماء يهريقه ، بفتح الهاء هراقة ، أي : صبه ، وفي لغة أخرى : أهرق الماء يهرقه إهراقا ، وفيه لغة أخرى : أهراق يهريق إهراقا ، قالوا : قوله : " ألا نهرقها " ، بكلمة " ألا " التي للاستفهام عن النفي ، ويروى : لا نهريقها ، بالنفي ، لا يقال : إن فيه مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأنهم فهموا بالقرائن أن الأمر ليس للإيجاب . قوله : " قال اغسلوها " ، أي : قال صلى الله عليه وسلم في جوابهم : لا نهرقها ، ونغسلها . اغسلوها ، إنما رجع صلى الله عليه وسلم عن أمره بالشيئين ، وهما الأمر بالكسر ، والأمر بالإهراق إلى قوله : " اغسلوها " ، وهو مجرد الأمر بالغسل ; لأنه يحتمل أن اجتهاده قد تغير ، أو أوحي إليه بذلك ، واليوم لا يجوز فيه الكسر ; لأن الحكم بالغسل نسخ التخيير ، كما أنه نسخ الجزم بالكسر .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) فيه دليل على نجاسة لحم الحمر الأهلية ; لأن فيه الأمر بإراقته ، وهذا أبلغ في التحريم ، وقد كانت لحوم الحمر تؤكل قبل ذلك ، واختلف العلماء الذين ذهبوا إلى إباحة لحوم الحمر الأهلية في معنى النهي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، عن أكلها لأي علة كان هذا النهي ، فقال نافع ، وعبد الملك بن جريج ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وبعض المالكية : علة النهي لأجل الإبقاء على الظهر ليس على وجه التحريم ، واحتجوا في ذلك بما روي عن ابن عباس أنه قال : ما [ ص: 31 ] نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية إلا من أجل أنها ظهر . رواه الطحاوي بإسناد صحيح عن ابن عباس من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى . ورواه ابن أبي شيبة موقوفا على عبد الرحمن ، ولم يذكر ابن عباس ، وفي الصحيحين عن ابن عباس قال : لا أدري أنهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنه كان حمولة الناس ، فكره أن يذهب حمولتهم ، أو حرمه في يوم خيبر ، وهذا يبين أن ابن عباس علم بالنهي ، لكنه حمله على التنزيه توفيقا بين الآية وعمومها ، وبين أحاديث النهي . وقال سعيد بن جبير وبعض المالكية : إنما منعت الصحابة يوم خيبر من أكل لحوم الحمر الأهلية ; لأنها كانت جوالة تأكل القذرات ، فكان نهيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لهذه العلة لا لأجل التحريم . وقال آخرون : علة النهي كانت لاحتياجهم إليها ، واحتجوا في ذلك بما رواه الطحاوي من حديث عبد الله بن عمر : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن أكل الحمار الأهلي يوم خيبر ، وكانوا قد احتاجوا إليها . وقال آخرون : علة النهي أنها أقيتت قبل القسمة ، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم من أكلها قبل أن تقسم . وقال أبو عمر بن عبد البر : وفي إذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في أكل الخيل ، وإباحته لذلك يوم خيبر دليل على أن نهيه عن أكل لحوم الحمر يومئذ عبادة لغير علة ; لأنه معلوم أن الخيل أرفع من الحمير ، وأن الخوف على الخيل ، وعلى قيامها فوق الخوف على الحمير ، وأن الحاجة في الغزو وغيره إلى الخيل أعظم ، وبهذا يتبين أن أكل لحوم الحمر لم يكن لحاجة وضرورة إلى الظهر والحمل ، وإنما كانت عبادة وشريعة ، والذين ذهبوا إلى إباحة أكل لحوم الحمر الأهلية ، وهم : عاصم بن عمر بن قتادة ، وعبيد بن الحسن ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وبعض المالكية احتجوا بحديث غالب بن أبجر قال : يا رسول الله ، إنه لم يبق من مالي شيء أستطيع أن أطعم منه أهلي غير حمر لي ، أو حمرات لي . قال : فأطعم أهلك من سمين مالك ، وإنما قذرت لكم جوال القرية . رواه الطحاوي ، وأبو داود ، وأبو يعلى ، والطبراني . وأجيب عنه بأن هذا الحديث مختلف في إسناده ففي طريق ، عن ابن معقل ، عن رجلين من مزينة ، أحدهما عن الآخر عبد الله بن عمرو بن لويم ، بضم اللام ، وفتح الواو ، وسكون الياء آخر الحروف ، وفي آخره ميم ، والآخر غالب بن أبجر . وقال مسعر : أرى غالبا الذي سأل النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم . وفي طريق عبد الرحمن بن معقل ، وفي طريق عبد الله بن معقل ، وفي طريق عبد الرحمن بن بشر ، وفي طريق عبد الله بن بشر عوض عبد الرحمن ، وهذا اختلاف شديد ، فلا يقاوم الأحاديث الصحيحة التي وردت بتحريم لحوم الحمر الأهلية . وقال ابن حزم : هذا الحديث بطرقه باطل ; لأنها كلها من طريق عبد الرحمن بن بشر ، وهو مجهول ، والآخر من طريق عبد الله بن عمرو بن لويم ، وهو مجهول ، أو من طريق شريك وهو ضعيف ، ثم عن ابن الحسن ، ولا يدرى من هو ، أو من طريق سلمى بنت النضر الخضرية ، ولا يدرى من هي . وقال البيهقي : هذا حديث معلول ثم طول في بيانه .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية