الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2351 1 - حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال : أخبرنا مالك ، عن وهب بن كيسان ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل ، فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح ، وهم ثلاثمائة ، وأنا فيهم ، فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش ، فجمع ذلك كله فكان مزودي تمر ، فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا حتى فني ، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة ، فقلت : وما تغني تمرة ؟ فقال : لقد وجدنا فقدها حين فنيت ، قال : ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظرب فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة ، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا ثم أمر براحلة فرحلت ثم مرت تحتهما فلم تصبهما .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله : فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك ذلك كله ، ولما كان يفرق عليهم كل يوم قليلا قليلا صار في معنى النهد ، واعترض بأنه ليس فيه ذكر المجازفة ; لأنهم لم يريدوا المبايعة ، ولا البدل ، وأجيب بأن حقوقهم تساوت فيه بعد جمعه ، فتناولوه مجازفة كما جرت العادة .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن إسماعيل بن أبي أويس ، عن مالك ، وفي الجهاد عن صدقة بن الفضل . وأخرجه مسلم في الصيد ، عن عثمان بن أبي شيبة ، عن محمد بن عبدة ، به . وعن محمد بن حاتم ، عن ابن مهدي ، عن مالك ، به . وعن أبي كريب ، عن أبي أسامة . وأخرجه الترمذي في الزهد عن هناد بن السري . وأخرجه النسائي في الصيد ، وفي السير عن محمد بن آدم ، وعن الحارث بن مسكين ، وأخرجه ابن ماجه في الزهد عن أبي بكر بن أبي شيبة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) . قوله : " بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعثا " كان هذا البعث في رجب سنة ثمان للهجرة ، والبعث بفتح الباء الموحدة ، وسكون العين المهملة ، وفي آخره ثاء مثلثة ، وهو بمعنى المبعوث من باب تسمية المفعول بالمصدر . قوله : " قبل الساحل " ، بكسر القاف ، وفتح الباء الموحدة ، أي : جهة الساحل ، والساحل شاطئ البحر . قوله : " فأمر " بتشديد الميم من التأمير ، أي : جعل أبا عبيدة أميرا عليهم ، واسم أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح ، بفتح الجيم ، وتشديد الراء ، وبالحاء المهملة الفهري القرشي أمين الأمة أحد العشرة المبشرة ، شهد المشاهد كلها ، وثبت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم أحد ، ونزع الحلقتين اللتين دخلتا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلق المغفر بفيه ، فوقعت ثنيتاه ، مات سنة ثماني عشرة في طاعون عمواس ، وقبره بغور نيسان عند قرية تسمى عمتا ، وصلى عليه معاذ بن جبل ، [ ص: 42 ] وكان سنه يوم مات ثمانيا وخمسين سنة . قوله : " وهم " ، أي : البعث الذي هو الجيش ثلاثمائة أنفس . قوله : " فني الزاد " . قال الكرماني : إذا فني فكيف أمر بجمع الأزواد ، فأجاب بأنه إما أن يريد به فناء زاده خاصة ، أو يريد بالفناء القلة . ( قلت ) : يجوز أن يقال : معنى فني أشرف على الفناء . قوله : " فكان مزودي تمر " ، المزود ، بكسر الميم ما يجعل فيه الزاد كالجراب . وفي رواية مسلم : بعثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وزودنا جرابا من تمر ، لم يجد لنا غيره ، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة . قوله : " لقد وجدنا فقدها حين فنيت " ، أي : وجدنا فقدها مؤثرا شاقا علينا ، ولقد حزنا لفقدها . قوله : " ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت " ، كلمة " إذا " للمفاجأة ، والحوت يقع على الواحد والجمع ، وقال صاحب ( المنتهى ) : والجمع حيتان ، وهي العظام منها . وقال ابن سيده : الحوت السمك ، اسم جنس . وقيل : هو ما عظم منه ، والجمع أحوات ، وفي كتاب الفراء جمعه أحوتة وأحوات في القليل ، فإذا كثرت فهي الحيتان . قوله : " مثل الظرب " ، بفتح الظاء المعجمة ، وكسر الراء مفرد الظراب ، وهي الروابي الصغار . وقال ابن الأثير : الظراب الجبال الصغار ، واحدها ظرب بوزن كتف ، وقد يجمع في القلة على أظراب . قوله : " ثماني عشرة ليلة " ، كذا هو في نسخة الأصيلي ، وروي ثمانية عشر ليلة . وقال ابن التين : الصواب هو الأول ، وروي : فأكلنا منه شهرا ، وروي : نصف شهر . وقال عياض : يعني أكلوا منه نصف شهر طريا ، وبقية ذلك قديدا . وقال النووي : من قال : شهرا هو الأصل ، ومعه زيادة علم ، ومن روى دونه لم ينف الزيادة ، ولو نفاها قدم المثبت ، والمشهور عند الأصوليين أن مفهوم العدد لا حكم له فلا يلزم منه نفي الزيادة . وفي رواية مسلم : فأقمنا عليها شهرا ، ولقد رأيتنا نغترق من وقب عينه قلال الدهن ، ونقتطع منه الفدر كالثور ، ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينه ، وتزودنا من لحمه وشائق ، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، فقال : هو رزق أخرجه الله لكم ، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ، قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله . قوله : " بضلعين " ، ضبط بكسر الضاد ، وفتح اللام ، وقال في ( أدب الكاتب ) : ضلع ، وضلع . وقال الهروي : هما لغتان ، والضلع مؤنثة ، والوقب بفتح الواو ، وسكون القاف ، وبالباء الموحدة هو النقرة التي يكون فيها العين . قوله : " الفدر " ، بكسر الفاء ، وفتح الدال المهملة ، وفي آخره راء جمع فدرة ، وهي القطعة من اللحم ، والوشائق بالشين المعجمة جمع وشيقة ، وهي اللحم القديد ، وقيل : الوشيقة أن يؤخذ اللحم فيغلى قليلا ، ولا ينضج فيحمل في الأسفار ، وفي لفظ للبخاري : " نرصد عيرا لقريش " ، فأقمنا بالساحل نصف شهر فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط ، فسمي ذلك الجيش بجيش الخبط ، فألقى لنا البحر دابة يقال لها العنبر ، فأكلنا منها نصف شهر ، وادهنا من ودكه حتى ثابت إلينا أجسامنا . وفي مسلم : قال أبو عبيدة : يعني بالعنبر ميتة ، ثم قال : لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي سبيل الله عز وجل ، وقد اضطررتم فكلوا .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) : قال القرطبي : جمع أبي عبيدة الأزواد ، وقسمتها بالسوية ، إما أن يكون حكما حكم به لما شاهد من الضرورة ، وخوفه من تلف من لم يبق معه زاد فظهر له أنه وجب على من معه أن يواسي من ليس له زاد ، أو يكون عن رضا منهم ، وقد فعل مثل ذلك غير مرة سيدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولذلك قال بعض العلماء : هو سنة . وقال ابن بطال : استدل بعض العلماء بهذا الحديث بأنه لا يقطع سارق في مجاعة ; لأن المواساة واجبة للمحتاجين . وخصه أبو عمر بسرقة المأكل . وفيه أن للإمام أن يواسي بين الناس في الأقوات في الحضر بثمن وغيره ، كما فعل ذلك في السفر ، وفيه قوة إيمان هؤلاء البعث إذ لو ضعف والعياذ بالله لما خرجوا ، وهم ثلاثمائة ، وليس معهم سوى جراب تمر ، أو مزودي تمر ، كما في الحديث المذكور . قال عياض : ويحتمل أن يكون صلى الله تعالى عليه وسلم زودهم الجراب زائدا عما كان معهم من الزاد من أموالهم ، ويحتمل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير هذا الجراب ، وكان معهم غيره من الزاد ، وقيل : يحتمل أن الجراب الذي زودهم الشارع كان على سبيل البركة ، فلذا كانوا يأخذونه تمرة تمرة . وفيه فضل أبي عبيدة ، ولهذا سماه الشارع أمين هذه الأمة . وفيه النظر في القوم ، والتدبير فيه ، وفضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ما كان فيهم من البؤس ، وقد استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . وفيه رضاهم بالقضاء ، وطاعتهم للأمير . وفيه جواز الشركة في الطعام وخلط الأزواد في السفر إذا كان ذلك أرفق بهم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية