الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2349 54 - حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن حميد ، عن أنس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام ، فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها ، وجعل فيها الطعام ، وقال : كلوا ، وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا ، فدفع القصعة الصحيحة ، وحبس المكسورة .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " فكسرت القصعة " ، ويحيى بن سعيد القطان . قوله : " كان عند بعض نسائه " . وروى الترمذي من رواية سفيان الثوري ، عن حميد ، عن أنس قال : أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم طعاما في قصعة فضربت عائشة القصعة بيدها ، فألقت ما فيها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : طعام بطعام ، وإناء بإناء . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وأخرجه أحمد ، عن ابن أبي عدي ، ويزيد بن هارون ، عن حميد ، به . وقال : أظنها عائشة . وقال الطيبي : إنما أبهمت عائشة تفخيما لشأنها ، قيل : إنه مما لا يخفى ولا يلتبس أنها هي ; لأن الهدايا إنما كانت تهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها ، ورد بأن هذا مجرد دعوى يحتاج إلى البيان . وقال شيخنا : لم يقع في رواية أحد من البخاري ، والترمذي ، وابن ماجه تسمية زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم التي أهدت له الطعام ، وقد ذكر ابن حزم من طريق الليث ، عن جرير بن حازم ، عن حميد ، عن أنس ، أن التي أهدته إليه زينب بنت جحش ، أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في بيت عائشة ، ويومها جفنة من حيس ، فقامت عائشة فأخذت القصعة فضربت بها ، فكسرتها فقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى قصعة لها فدفعها إلى رسول زينب ، فقال : هذه مكان صحفتها ، وروى أبو داود والنسائي من رواية جسرة بنت دجاجة عن عائشة قالت : ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما فبعثت به فأخذني أفكل ، يعني رعدة ، فكسرت الإناء ، فقلت : يا رسول الله ، ما كفارة ما صنعت ؟ قال : إناء مثل إناء ، وطعام مثل طعام . قال الخطابي : في إسناده مقال . وقال الشيخ : يحتمل أنهما واقعتان ، وقعت لعائشة مرة مع زينب ، ومرة مع صفية ، فلا مانع من ذلك ، فإن كان ذلك واقعة واحدة رجعنا إلى الترجيح . وحديث أنس أصح ، وفي بعض طرقه زينب ، والله أعلم ، وذكر أبو محمد المنذري في الحواشي أن مرسلة القصعة أم سلمة رضي الله تعالى عنها . وروى النسائي من طريق حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي المتوكل ، عن أم سلمة ، أنها أتت بطعام في صحفة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأصحابه ، فجاءت عائشة متزرة بكساء ، ومعها فهر ، ففلقت الصحفة . الحديث . وفي ( الأوسط ) للطبراني من طريق عبيد الله العمري [ ص: 37 ] عن ثابت ، عن أنس ، أنهم كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة إذ أتي بصحفة خبز ولحم من بيت أم سلمة ، فوضعنا أيدينا ، وعائشة تصنع طعاما عجلة ، فلما فرغنا جاءت به ، ورفعت صحفة أم سلمة فكسرتها ، وروى ابن أبي شيبة وابن ماجه من طريق رجل من بني سواءة غير مسمى عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ، فصنعت له طعاما ، وصنعت له حفصة طعاما ، فسبقتني فقلت للجارية : انطلقي فأكفئي قصعتها ، فألقتها فانكسرت ، وانتثر الطعام فجمعه على النطع ، فأكلوا ثم بعث بقصعتي إلى حفصة ، فقال : خذوا ظرفا مكان ظرفكم ، والظاهر أنها قصة أخرى ; لأن في هذه القصة أن الجارية هي التي كسرت ، وفي الذي تقدم أن عائشة نفسها هي التي كسرتها . قوله : " فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين " ، قد تقدم من الأحاديث أن التي أرسلت دائرة بين عائشة وزينب بنت جحش ، وصفية ، وأم سلمة رضي الله تعالى عنهن ، فإن كانت القصة متعددة فلا كلام فيها ، وإلا فالعمل بالترجيح ، كما ذكرنا . قوله : " مع خادم " ، يطلق الخادم على الذكر والأنثى ، وهنا المراد الأنثى بدليل تأنيث الضمير في قوله : " فضربت بيدها فكسرت القصعة " . وذكر هنا القصعة ، وفي غيره ذكر الجفنة والصحفة كما مر . قوله : " فيها طعام " ، قد ذكر في حديث زينب أنه حيس ، بفتح الحاء المهملة ، وسكون الياء آخر الحروف ، وفي آخره سين مهملة ، وهو الطعام المتخذ من التمر ، والأقط ، والسمن ، وقد يجعل عوض الأقط الدقيق ، أو الفتيت . وفي حديث الطبراني : خبز ولحم . قوله : " فضمها " ، أي : ضم القصعة التي انكسرت رسول الله صلى الله عليه وسلم . قوله : " وقال : كلوا " ، أي : قال صلى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه الذين كانوا معه . قوله : " وحبس الرسول " ، أي : أوقف الخادم الذي هو رسول إحدى أمهات المؤمنين . قوله : " والقصعة " ، أي : حبس القصعة المكسورة أيضا عنده . قوله : " حتى فرغوا " ، أي : حتى فرغت الصحابة الذين كانوا معه من الأكل . قوله : " فدفع " ، أي : أمر بإحضار قصعة صحيحة من عند التي هو في بيتها ، فدفعها إلى الرسول ، وحبس القصعة المكسورة عنده ورأيت في بعض المواضع في أثناء مطالعتي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ القصعة المكسورة ، وكانت قطعا فاستوت صحيحة في كفه المبارك كما كانت أولا .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) قال ابن التين : احتج بهذا الحديث من قال : يقضى في العروض بالأمثال ، وهو مذهب أبي حنيفة ، والشافعي ، ورواية عن مالك ، وفي رواية أخرى كل ما صنع الآدميون غرم مثله كالثوب ، وبناء الحائط ، ونحو ذلك ، وكل ما كان من صنع الله عز وجل مثل العبد والدابة ففيه القيمة والمشهور من مذهبه أن كل ما كان ليس بمكيل ، ولا موزون ففيه القيمة ، وما كان مكيلا ، أو موزونا فيقضى بمثله يوم استهلاكه . وقال ابن الجوزي : فإن قيل : الصحفة من ذوات القيم ، فكيف غرمها فالجواب من وجهين : أحدهما أن الظاهر ما يحويه بيته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه ملكه ، فنقل من ملكه إلى ملكه لا على وجه الغرامة بالقيمة . الثاني : أن أخذ القصعة من بيت الكاسرة عقوبة ، والعقوبة بالأموال مشروعة ، ولما استدل ابن حزم بحديث القصعة قال : هذا قضاء بالمثل لا بالدراهم . قال : وقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ، وابن مسعود ، أنهما قضيا فيمن استهلك فصلانا بفصلان مثلها ، وشبهه داود بجزاء الصيد في العبد العبد ، وفي العصفور العصفور ، وفي ( التوضيح ) ، واختلف العلماء فيمن استهلك عروضا ، أو حيوانا فذهب الكوفيون ، والشافعي ، وجماعة إلى أن عليه مثل ما استهلك . قالوا : ولا يقضى بالقيمة إلا عند عدم المثل ، وذهب مالك إلى أن من استهلك شيئا من العروض أو الحيوان ، فعليه قيمته يوم استهلاكه ، والقيمة أعدل في ذلك ، ثم قال : واتفق مالك ، والكوفيون ، والشافعي ، وأبو ثور فيمن استهلك ذهبا أو ورقا ، أو طعاما مكيلا ، أو موزونا ، أن عليه مثل ما استهلك في صفته ، ووزنه ، وكيله . ( قلت ) : مذهب أبي حنيفة أن كل ما كان مثليا إذا استهلكه شخص يجب عليه مثله ، وإن كان من ذوات القيم يجب عليه قيمته ، والمثلي كالمكيل مثل الحنطة والشعير ، والموزون كالدراهم والدنانير ، لكن بشرط أن لا يكون الموزون مما يضر بالتبعيض ، يعني غير المصوغ منه فهو يلحق بذوات القيم . وغير المثلي كالعدديات المتفاوتة كالبطيخ ، والرمان ، والسفرجل ، والثياب ، والدواب . والعددي المتقارب كالجوز ، والبيض . والفلوس كالمكيل . والجواب عن حديث الباب ما قاله ابن الجوزي المذكور آنفا ، وقد ذكرنا في أول الباب ما يكفي عن الجواب عن الحديث . وفيه بسط عذر المرأة في حالة الغيرة ; لأنه لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم عاتب عائشة على ذلك ، فإنما قال : غارت أمكم ، ويقال : إنما لم يؤدبها ، ولو بالكلام ; لأنه فهم أن المهدية كانت [ ص: 38 ] أرادت بإرسالها ذلك إلى بيت عائشة أذاها ، والمظاهرة عليها ، فلما كسرتها لم يزد على أن قال : غارت أمكم ، وجمع الطعام بيده ، وقال : قصعة بقصعة ، وأما طعام بطعام ; لأنه كان يعلم بإتلافه قبول له ، أو في حكمه . وقال القاضي أبو بكر : ولم يغرم الطعام ; لأنه كان مهدى ، فإتلافه قبول له ، أو في حكم القبول قيل فيه نظر ; لأن الطعام لم يتلف ; فإنه دعا بقصعة فوضعه فيها ، وقال : كلوا ، غارت أمكم . وأجيب بأن هذا الطعام إن كان هدية فيستدعي أن يكون ملكا للمهدي فلا غرامة ، وإن كان ملكا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم باعتبار أن ما كان في بيوت أزواجه صلى الله تعالى عليه وسلم فهو ملك له ، فلا يتصور فيه الغرامة .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية