الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2510 19 - حدثنا عبد الله بن منير قال : سمع وهب بن جرير وعبد الملك بن إبراهيم قالا : حدثنا شعبة ، عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس ، عن أنس رضي الله عنه قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وشهادة الزور .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " وشهادة الزور " .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) وهم ستة : الأول عبد الله بن منير بضم الميم وكسر النون أبو عبد الرحمن الزاهد ، مر في الوضوء .

                                                                                                                                                                                  الثاني : وهب بن جرير بن حازم الأزدي أبو العباس .

                                                                                                                                                                                  الثالث : عبد الملك بن إبراهيم أبو عبد الله مولى بني عبد الدار القرشي .

                                                                                                                                                                                  الرابع : شعبة بن الحجاج .

                                                                                                                                                                                  الخامس : عبيد الله بتصغير العبد ابن أبي بكر بن أنس بن مالك .

                                                                                                                                                                                  السادس : أنس بن مالك .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 216 ] ( ذكر لطائف إسناده ) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه السماع في موضع ، وفيه العنعنة في موضعين ، وفيه أن شيخه مروزي وهو من أفراده ، وأن وهب بن جرير بصري ، وأن عبد الملك بن إبراهيم مكي ، جدي بضم الجيم وتشديد الدال المهملة وهو من أفراده ، وأن شعبة واسطي سكن البصرة ، وأن عبيد الله بصري ، قوله : عن عبد الله بن أبي بكر ، وفي رواية محمد بن جعفر التي تأتي في الأدب عن محمد بن جعفر عن شعبة ، حدثني عبيد الله بن أبي بكر ، سمعت أنس بن مالك ، وفيه رواية الراوي عن جده .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في الأدب عن محمد بن الوليد ، وفي الديات عن إسحاق بن منصور ، وأخرجه مسلم في الأيمان عن يحيى بن حبيب ، وعن محمد بن الوليد ، وأخرجه الترمذي في البيوع ، وفي التفسير عن محمد بن عبد الأعلى ، وأخرجه النسائي في القضاء ، وفي القصاص ، وفي التفسير عن إسحاق بن إبراهيم ، وعن محمد بن عبد الأعلى .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) : قوله : " سئل النبي صلى الله عليه وسلم " ويروى : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية بهز عن شعبة عند أحمد أو ذكرها ، وفي رواية محمد بن جعفر : ذكر الكبائر أو سئل عنها .

                                                                                                                                                                                  قوله : " عن الكبائر " جمع كبيرة وهي الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعا العظيم أمرها كالقتل والزنا والفرار من الزحف وغير ذلك ، وهي من الصفات الغالبة ، يعني صار اسما لهذه الفعلة القبيحة ، وفي الأصل هي صفة والتقدير الفعلة القبيحة أو الخصلة القبيحة ، قيل : الكبيرة كل معصية ، وقيل : كل ذنب قرن بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب .

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) : الكبيرة أمر نسبي ، فكل ذنب فوقه ذنب فهو بالنسبة إليه كبيرة وبالنسبة إلى ما تحته صغيرة .

                                                                                                                                                                                  واختلفوا في الكبائر وههنا ذكر أربعة وليس فيه أنها أربع فقط لأنه ليس فيه شيء مما يدل على الحصر ، وقيل : هي سبع وهي في حديث أبي هريرة " اجتنبوا السبع الموبقات وهي الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " ، وقيل : الكبائر تسع رواه الحاكم في حديث طويل فذكر السبعة المذكورة وزاد عليها : " عقوق الوالدين المسلمين واستحلال الحرام " وذكر شيخنا عن أبي طالب المكي أنه قال : الكبائر سبع عشرة ، قال : جمعتها من جملة الأخبار وجملة ما اجتمع من قول ابن مسعود وابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم وغيرهم : الشرك بالله ، والإصرار على معصيته ، والقنوط من رحمته ، والأمن من مكره ، وشهادة الزور ، وقذف المحصن ، واليمين الغموس ، والسحر ، وشرب الخمر والمسكر ، وأكل مال اليتيم ظلما ، وأكل الربا ، والزنا ، واللواطة ، والقتل ، والسرقة ، والفرار من الزحف ، وعقوق الوالدين . انتهى ، وقال رجل لابن عباس : الكبائر سبع ؟ فقال : هي إلى سبعمائة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " الإشراك بالله " مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف ، التقدير : الكبائر الإشراك بالله ، وما بعده عطف عليه ، ووجه تخصيص هذه الأربعة بالذكر لأنها أكبر الكبائر والشرك أعظمها .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وعقوق الوالدين " العقوق من العق وهو القطع ، وذكر الأزهري أنه يقال : عق والده يعقه بضم العين عقا وعقوقا إذا قطعه ، والعاق اسم فاعل ويجمع على عققة بفتح الحروف كلها ، وعقق بضم العين والقاف ، وقال صاحب ( المحكم ) : رجل عقق وعقوق وعق وعاق بمعنى واحد ، والعاق هو الذي شق عصا الطاعة لوالديه ، وقال النووي : هذا قول أهل اللغة ، وأما حقيقة العقوق المحرم شرعا فقل من ضبطه ، وقد قال الشيخ الإمام أبو محمد بن عبد السلام : لم أقف في عقوق الوالدين وفيما يختصان به من العقوق على ضابط أعتمد عليه ، فإنه لا يجب طاعتهما في كل ما يأمران به ولا ينهيان عنه باتفاق العلماء ، وقد حرم على الولد الجهاد بغير إذنهما لما يشق عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه ولشدة تفجعهما على ذلك ، وقد ألحق بذلك كل سفر يخافان فيه على نفسه أو عضو من أعضائه .

                                                                                                                                                                                  وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في ( فتاويه ) : العقوق المحرم كل فعل يتأذى به الوالدان تأذيا ليس بالهين مع كونه ليس من الأفعال الواجبة ، قال : وربما قيل : طاعة الوالدين واجبة في كل ما ليس بمعصية ومخالفة أمرهما في ذلك عقوق ، وقد أوجب كثير من العلماء طاعتهما في الشبهات ، وليس قول من قال من علمائنا : يجوز له السفر في طلب العلم وفي التجارة بغير إذنهما مخالفا لما ذكرته ، فإن هذا كلام مطلق ، وفيما ذكرته بيان لتقييد ذلك المطلق .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وقتل النفس " يعني بغير الحق ، ويكفي فيه وعيدا .

                                                                                                                                                                                  قوله تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها الآية .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وشهادة [ ص: 217 ] الزور " وقد مر تفسير الزور في أول الباب ، وقد روي عن ابن مسعود أنه قال : عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله ، وقرأ عبد الله : فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور

                                                                                                                                                                                  واختلف في شاهد الزور إذا تاب فقال مالك : تقبل توبته وشهادته كشارب الخمر ، وعن عبد الملك : لا تقبل كالزنديق ، وقال أشهب : إن أقر بذلك لم تقبل توبته أبدا ، وعند أبي حنيفة : إذا ظهرت توبته يجب قبول شهادته إذا أتى ذلك مرة أخرى يظهر في مثلها توبته ، وهو قول الشافعي وأبي ثور ، وقال ابن المنذر : وقول أبي حنيفة ومن تبعه أصح ، وقال ابن القاسم : بلغني عن مالك أنه لا تقبل شهادته أبدا وإن تاب وحسنت توبته .

                                                                                                                                                                                  واختلف : هل يؤدب إذا أقر ، فعن شريح أنه كان يبعث بشاهد الزور إلى قومه أو إلى سوقه إن كان مولى : إنا قد زيفنا شهادة هذا ويكتب اسمه عنده ويضربه خفقات وينزع عمامته عن رأسه ، وعن الجعد بن ذكوان أن شريحا ضرب شاهد زور عشرين سوطا ، وعن عمر بن عبد العزيز أنه اتهم قوما على هلال رمضان ، فضربهم سبعين سوطا ، وأبطل شهادتهم ، وعن الزهري : شاهد الزور يعزر ، وقال الحسن : يضرب شيئا ، ويقال للناس : إن هذا شاهد زور ، وقال الشعبي : يضرب ما دون الأربعين ; خمسة وثلاثين سبعة وثلاثين سوطا ، وفي ( كتاب القضاء ) لأبي عبيد بن سلام عن معمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد شهادة رجل في كذبة كذبها ، وذكره أبو سعيد النقاش بإسناده إلى عكرمة عن ابن عباس بلفظ : كذبة واحدة كذبها ، وفي ( الأشراف ) كان سوار يأمر به يلبب بثوبه ويقول لبعض أعوانه : اذهبوا به إلى مسجد الجامع فدوروا به على الخلق وهو ينادي : من رآني فلا يشهد بزور ، وكان النعمان يرى أن يبعث به إلى سوقه إن كان سوقيا أو إلى مسجد قومه ، ويقول القاضي يقرئكم السلام ويقول : إنا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه وحذروه الناس ، ولا يرى عليه تعزيرا ، وعن مالك : أرى أن يفضح ويعلن به ويوقف ، وأرى أن يضرب ويسار به ، وقال أحمد وإسحاق : يقام للناس ويعذر ويؤدب ، وقال أبو ثور : يعاقب ، وقال الشافعي : يعزر ولا يبلغ بالتعزير أربعين سوطا ويشهر بأمره ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه حبسه يوما وخلى عنه ، وعن ابن أبي ليلى يضرب خمسة وسبعين سوطا ولا يبعث به ، وعن الأوزاعي : إذا كانا اثنين وشهدا على طلاق ففرق بينهما ثم أكذبا نفسهما أنهما يضربان مائة مائة ويغرمان للزوج الصداق ، وعن القاسم وسالم : شاهد الزور يحبس ويخفق سبع خفقات بعد العصر وينادى عليه ، وعن عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة : أنه أمر بحلق أنصاف رؤوسهم وتسخم وجوههم ويطاف بهم في الأسواق .

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) : عند أبي حنيفة شاهد الزور يبعث به إلى محلته أو سوقه ، فيقال لهم : إنا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه ، فلا يضرب ولا يحبس ، وعند أبي يوسف ومحمد : يضرب ويحبس إن لم يحدث توبة لأنه ارتكب محظورا فيعزر .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية