الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2433 7 - حدثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا شعبة ، عن هشام بن زيد بن أنس بن مالك ، عن أنس رضي الله عنه قال : أنفجنا أرنبا بمر الظهران ، فسعى القوم فلغبوا ، فأدركتها فأخذتها ، فأتيت بها [ ص: 131 ] أبا طلحة فذبحها وبعث بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوركها أو فخذيها - قال : فخذيها لا شك فيه - فقبله ، قلت : وأكل منه ؟ قال : وأكل منه . ثم قال بعد : قبله .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله " فقبله " ، وهو ظاهر .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في الذبائح عن أبي الوليد وعن مسدد عن يحيى القطان ، وأخرجه مسلم في الذبائح عن أبي موسى وعن زهير بن حرب وعن يحيى بن حبيب ، وأخرجه أبو داود في الأطعمة عن موسى بن إسماعيل وأوله : كنت غلاما حزورا قصدت أرنبا . وأخرجه الترمذي فيه عن محمود بن غيلان ، وأخرجه النسائي في الصيد عن إسماعيل بن مسعود ، وأخرجه ابن ماجه فيه عن محمد بن بشار .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه : قوله ( أنفجنا ) بالنون والفاء والجيم ; أي أثرناه من مكانه ، قال الجوهري : نفج الأرنب إذا ثار ، وأنفجته أنا ، والإنفاج الإثارة ، يقال أنفجت الأرنب في جحره أي أثرته فثار ، وأصله من أنفجت الأرنب إذا وثبت فوسعت الخطوة ، قال الخليل : نفج اليربوع ينفج وينفج نفوجا وينتفج وهو أرجى عدوه ، والأرنب حيوان معروف . وكلام الجوهري يقتضي أنه مذكر ، فإنه قال " إذا ثار " ولم يقل ثارت ، وكذا قال في باب الباء " الأرنب واحد الأرانب " ولم يقل واحدة الأرانب ، والذي في حديث الباب يقتضي تأنيثه وهي الضمائر التي في " أدركتها " إلى آخره ، وهكذا ذكره بعض أهل اللغة بأنه مؤنثة ، والصحيح أنه يكون للمذكر والأنثى وبه صدر كلامه صاحب المحكم ثم قال : والأرنب الأنثى والخزز الذكر . وقال الجوهري في باب الزاي : الخزز ذكر الأرانب والجمع خزان ، مثل صرد وصردان .

                                                                                                                                                                                  قوله ( بمر الظهران ) الباء فيه تتعلق بأنفجنا ، ومر الظهران بفتح الميم وتشديد الراء وفتح الظاء المعجمة وسكون الهاء ، قال النووي : هو موضع قريب من مكة . انتهى ، وهو الذي يعرف اليوم ببطن مر ، قال الجوهري : وبطن مر موضع ، وهو من مكة على مرحلة . وقال الكرماني : ومر - بفتح الميم وتشديد الراء - قرية ذات نخل وزرع ، والظهران - بفتح المعجمة وسكون الهاء وبالراء والنون - اسم للوادي وهو على خمسة أميال من مكة إلى جهة المدينة . وقال البكري : " مر " مضاف إلى " الظهران " ، وبينه وبين البيت ستة عشر ميلا . وقال سعيد بن المسيب : كانت منازل عك مر الظهران ، وببطن مر تخزعت خزاعة عن أخواتها فبقيت بمكة وسارت أخواتها إلى الشام أيام سيل العرم . وقال كثير عزة : سميت مر لمرارة مائها .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فلغبوا ) بفتح الغين المعجمة وكسرها وبالفتح أشهر ، ومعناه تعبوا . وقال الكرماني : وفي بعض الرواية " فتعبوا " من التعب وهو الإعياء . وقال الأصمعي : تقول العرب لغبت ألغب لغوبا أعييت . وقال الداودي : لغبوا عطشوا . وقال ابن التين : ولم يذكره غيره .

                                                                                                                                                                                  قوله ( أبا طلحة ) ، هو زوج أم أنس رضي الله تعالى عنه ، واسمها أم سليم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( بوركها ) بفتح الواو وكسر الراء ، وبكسر الواو وإسكان الراء ; هو ما فوق الفخذ وهو بكسر الخاء وسكونها .

                                                                                                                                                                                  قوله ( أو فخذيها ) شك من الراوي .

                                                                                                                                                                                  قوله ( قال : فخذيها ، لا شك فيه ) ، وفاعل " قال " هو شعبة ; لأن ابن بطال قال شعبة فخذيها لا شك فيه ، ثم قال : فيه دليل على أن شعبة شك في الفخذين أولا ثم استيقن ، وكذلك شك أخيرا في الأكل فأوقف حديثه على القبول . قلت : يشير بهذا إلى أنه لا يشك في " فخذيها " ، وإنما الشك بين الوركين والفخذين .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ثم قال بعد : قبله ) أشار به إلى أنه شك في أكله ولم يشك في قبوله ، وفي التوضيح : شعبة شك في الفخذين أولا ثم استيقن ، وكذلك شك أخيرا في الأكل . قلت : ولم يشك في القبول .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه : فيه إباحة السعي لطلب الصيد ، فإن قلت : روى أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن عباس " من تبع الصيد غفل " - قلت : المراد به من تمادى به طلب الصيد إلى أن فاتته الصلاة أو غيرها من مصالح دينه ودنياه .

                                                                                                                                                                                  وفيه أنه إذا طلب جماعة الصيد فأدركه بعضهم وأخذه يكون ملكا له ولا يشاركه فيه من شاركه في طلبه ، وفيه في لفظ الترمذي وغيره " فذبحها بمروة " صحة الذبح بالمروة ونحوها إذا كان لها حد يذكى به الصيد ، فإن قتله بثقله لم يحل .

                                                                                                                                                                                  وفيه أنه لا بأس بإهداء الصاحب لصاحبه الشيء اليسير وإن كان المهدى إليه عظيما إذا علم من حاله محبة ذلك منه ، وفيه الإخبار عمن أهدي إليه شيء مما يؤكل فقبله أنه أكله كما فعل أنس ، وفيه إباحة أكل الأرنب وهو قول الأئمة الأربعة وكافة العلماء إلا ما حكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعكرمة مولى ابن عباس أنهم كرهوا [ ص: 132 ] أكلها .

                                                                                                                                                                                  وقال الترمذي : وقد كره بعض أهل العلم أكل الأرنب وقالوا : إنها تدمي . انتهى ، قلت : رواية عن أصحابنا كراهة أكله ، والأصح قول العامة .

                                                                                                                                                                                  وورد في إباحته أحاديث كثيرة ; منها حديث جابر بن عبد الله - رواه البيهقي - أن غلاما من قومه صاد أرنبا فذبحها بمروة فعلقها ، فسأل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن أكلها ، فأمره بأكلها .

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث عمار بن ياسر - رواه أبو يعلى في مسنده والطبراني في الكبير من رواية ابن الحوتكية - أن رجلا سأل عمر رضي الله تعالى عنه عن الأرنب ، فأرسل إلى عمار فقال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزلنا في موضع كذا وكذا ، فأهدى له رجل من الأعراب أرنبا فأكلناها ، فقال الأعرابي : إني رأيت دما ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا بأس .

                                                                                                                                                                                  وحديث محمد بن صفوان - رواه النسائي وابن ماجه من رواية الشعبي عنه - أنه مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأرنبين فعلقهما ، فقال : يا رسول الله ، إني أصبت هذين الأرنبين فلم أجد حديدة أذكيهما بها ، فذكيتهما بمروة ، أفآكل ؟ قال : كل . لفظ ابن ماجه رحمه الله .

                                                                                                                                                                                  وحديث محمد بن صيفي - رواه ابن أبي شيبة من رواية الشعبي عنه - قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأرنبين فذبحتهما بمروة ، فأمرني بأكلهما .

                                                                                                                                                                                  وحديث ابن عباس ، رواه الطبراني في المعجم الكبير من رواية أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال : سمعت ابن عباس يقول : أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرنبا وعائشة نائمة ، فرفع لها منها الفخذ ، فلما انتبهت أعطاها إياه فأكلته .

                                                                                                                                                                                  وحديث عبد الله بن عمرو ، رواه أبو داود من رواية محمد بن خالد عن أبيه خالد بن الحويرث أن عبد الله بن عمرو كان بالصفاح - قال محمد : مكان بمكة - وأن رجلا جاء بأرنب قد صادها ، فقال : يا عبد الله بن عمرو ، ما تقول ؟ قال : قد جيء بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جالس فلم يأكلها ولم ينه عن أكلها ، وزعم أنها تحيض .

                                                                                                                                                                                  وحديث عمر وأبي الدرداء وأبي ذر رضي الله تعالى عنهم ، رواه البيهقي في سننه من رواية حكيم بن جبير عن موسى بن طلحة ، قال عمر لأبي ذر وعمار وأبي الدرداء : أتذكرون يوم كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكان كذا وكذا فأتاه أعرابي بأرنب فقال : يا رسول الله ، إني رأيت بها دما ! فأمرنا بأكلها ولم يأكل ؟ قالوا : نعم ... الحديث .

                                                                                                                                                                                  وحديث أبي هريرة - رواه النسائي عنه - قال : جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأرنب قد شواها فلم يأكل ، وأمر القوم أن يأكلوا ... الحديث .

                                                                                                                                                                                  وحديث خزيمة بن جزء - رواه ابن ماجه عنه - قال : قلت : يا رسول الله ، جئت لأسألك عن أجناس الأرض . وفيه : قلت : يا رسول الله ، ما تقول في الأرنب ؟ قال : لا آكله ولا أحرمه . قلت : فإني آكل ما لم يحرم ، ولم يا رسول الله ؟ قال : تبينت أنها تدمي .

                                                                                                                                                                                  وحديث عبد الله بن معقل - رواه الطبراني عنه - أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر حديثا ، قلت : يا رسول الله ، ما تقول في الأرنب ؟ قال : لا آكلها ولا أحرمها .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية