الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك إذا ثبت بالعقل أن الكل أعظم من الجزء، وأن الأمور المساوية لشيء واحد متساوية، وأن الشيء الواحد لا يكون موجودا معدوما، ونحو ذلك، فمتى أراد الإنسان إدخال معين في هذه القضية [ ص: 98 ] الكلية أشار إليه. والقضايا الكلية تارة يكون لجزئياتها وجود في الخارج، وتارة تكون مقدورة في الأذهان، لا وجود لها في الأعيان، وهذا كثيرا ما يقع فيها الغلط والالتباس.

وليس المقصود الأول بالعلم إلا علم ما هو ثابت في الخارج، وأما المقدرات الذهنية فتلك بحسب ما يخطر للنفوس من التصورات، سواء كانت حقا أو باطلا، وما يثبته هؤلاء النفاة من إثبات موجود لا يمكن الإشارة إليه، ولا هو داخل العالم ولا خارجه عند التأمل والتدبر نبين أنه من المقدرات الذهنية، لا من الموجودات العينية.

وغير ابن سينا وأتباعه من المنطقيين، مثل أبي البركات صاحب "المعتبر" وغيره، لم يخرجوا هذه القضايا التي سماها ابن سينا "وهميات" من الأوليات البديهيات، كما أخرجها ابن سينا، وما أظن صاحب المنطق أرسطو أخرجها أيضا.

وأما قوله: "وهذا الضرب من القضايا أقوى في النفس من [ ص: 99 ] المشهورات التي ليست بأولية، وتكاد تشاكل الأوليات وتدخل في المشبهات بها" إلى آخره.

يقال له: هذا أيضا مما يبين قوتها وصدقها، فإنهم اعترفوا بأنها أقوى من المشهورات التي ليست بأولية، وهذه المشهورات عند أكثر العقلاء من العقليات الضروريات، فإذا كانت هذه أقوى منها لزم أن تكون أقوى من بعض العقليات الضروريات، وذلك يوجب صدقها.

وذلك أنه قال: "فأما المشهورات فمنها هذه الأوليات ونحوها مما يجب قبوله، لا من حيث هي واجب قبولها، بل من حيث عموم الاعتراف بها، ومنها الآراء المسماة بالمحمودة، وربما خصصناها باسم المشهورة، إذ لا عمدة لها إلا الشهرة، وهي أن لو خلي الإنسان وعقله المجرد، ووهمه وحسه، لم يؤدب بقبوله قضايا ما والاعتراف بها، ولم يمكنه الاستقراء بظنه القوي إلى حكم لكثرة الجزئيات، ولم يستدع إليها ما في طبعه الإنساني من الرحمة والخجل، والأنفة والحمية، وغير ذلك- لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه [ ص: 100 ] وحسه، مثل حكمنا أن سلب مال الإنسان للإنسان قبيح، وأن الكذب قبيح، ومن هذا الجنس ما يسبق إلى وهم كثير من الناس، وليس شيء من هذا يوجبه العقل الساذج، ولو توهم الإنسان نفسه، وأنه خلق دفعة، تام العقل، ولم يسمع أدبا، ولم يطع انفعالا نفسانيا أو خلقا، لم يقض في أمثال هذه القضايا بشيء، بل أمكنه أن يجهله ويتوقف فيه، ولي كذلك حال قضائه، لأن الكل أعظم من الجزء. وهذه المشهورات قد تكون صادقة، وقد تكون كاذبة، وإن كانت صادقة فليست تنسب إلى الأوليات ونحوها، إذا لم تكن بينة الصدق عند العقل الأول إلا بنظر، وإن كانت محمودة عنده، والصادق غير المحمود، وكذلك الكاذب غير الشنيع، ورب شنيع حق، ورب محمود كاذب.

التالي السابق


الخدمات العلمية