الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والمقصود هنا أن يقال لهؤلاء: إذا جوزتم إثبات كليات لا [ ص: 162 ] داخل العالم ولا خارجه، مع أنها متعلقة بمعينات، بل جعلتموها جزءا من المعينات، حيث قلتم: المطلق جزء من المعين، وجوزتم وجود نفوس مجردات عقلية، لا داخل العالم ولا خارجه، مع أنها متعلقة بأبدان بني آدم تعلق التدبير والتصريف، وجوزتم أيضا وجود نفس فلكية كذلك على أحد قوليكم، فما المانع أن يكون واجب الوجود، مع تدبيره وتصريفه للعالم، متعلقا به تعلق النفوس بالأبدان، وتعلق الكليات بالأعيان.

والنصارى لا يصلون إلى أن يقولوا: إن اللاهوت في الناسوت كالنفس في البدن، بل مباينة اللاهوت للناسوت عندهم أعظم من مباينة النفس للبدن، فإذا جوزتم ما يكون لا داخل العالم ولا خارجه، مع تعلقه بالأبدان أعظم من تعلق اللاهوت بالناسوت عند النصارى، أمكن أن يكون واجب الوجود متعلقا بالأبدان، بل بالموجودات كلها كذلك، وكان قول الجهمية الذين يقولون: إن اللاهوت في كل مكان أقرب إلى المعقول من قول من يقول: إن المجردات في الأبدان والأعيان.

ومما يزيد الأمر وضوحا أن هؤلاء الفلاسفة المشائين، ومن وافقهم من المتكلمة والمتصوفة يثبتون خمسة أنواع من الجواهر: واحد منها هو الجوهر الذي يمكن إحساسه، وهو الجسم في اصطلاحهم، وأربعة: هي جواهر عقلية لا يمكن الإحساس بها، وهي: العقل، [ ص: 163 ] والنفس، والمادة، والصورة، مع اتفاقهم على أن الأجسام المحسوسة مركبة من المادة والصورة، وهما جوهران عقليان، كما يقولون: إن الأعيان المعينة المحسوسة فيها كليات طبيعية عقلية هي أجزاء منها.

فإذا كان هؤلاء يثبتون في الجواهر المحسوسة، معها جواهر عقلية لا ينالها الحس بحال، ويجعلون هذا حالا وهذا محلا -لم يمكنهم مع ذلك أن ينكروا كون الوجود الواجب هو حالا أو محلا لهذه المحسوسات.

وهذا هو الذي انتهى إليه محققوهم، كابن سبعين وأمثاله، فإنهم جعلوا الوجود الواجب مع الممكن -كالمادة مع الصورة، وكالصورة مع المادة، أو ما يشبه ذلك- يجعلون الوجود الواجب جزءا من الممكن، كما أن المطلق جزء من المعين، حتى أن ابن رشد الحفيد وأمثاله يجعلون الوجود الواجب كالشرط في وجود الممكنات، الذي لا يتم وجود الممكنات إلا به، مع أن الشرط قد يكون وجوده مشروطا بوجود المشروط، فيكون كل منهما شرطا في وجود الآخر.

التالي السابق


الخدمات العلمية