الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت: ما ذكره من إبطال الحلول بإلزام النصارى كلام صحيح، ولكن هذا إنما يستقيم على قول أهل الإثبات المثبتين لمباينته للعالم، فأما على قول الجهمية النفاة فلا تستقيم هذه الحجة.

وذلك أن الحلولية على وجهين:

أحدهما: أهل الحلول الخاص، كالنصارى والغالية من هذه الأمة، الذين يقولون بالحلول، إما في علي، وإما في غيره.

والثاني: القائلون بالحلول العام، الذين يقولون في جميع المخلوقات نحوا مما قالته النصارى في المسيح عليه السلام، أو ما هو شر [ ص: 152 ] منه، ويقولون: النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا كما يقول ذلك الاتحادية أصحاب صاحب "الفصوص" وأمثاله، وهم كثيرون في الجهمية.

بل عامة عباد الجهمية وفقهائهم، وعامة الذين ينتسبون إلى التحقيق من الجهمية، هم من هؤلاء كابن الفارض، وابن سبعين، والقونوي، والتلمساني، وأمثالهم.

فإذا قال الجهمي الذي يقول: إنه في كل مكان، ويقول مع ذلك بأن وجوده غير وجود المخلوقات، أو يقول بالاتحاد من وجه والمباينة من وجه، كما هو قول ابن عربي وأمثاله، كما حكى الإمام أحمد عنهم، يقول: إنه في كل مكان لا مماس للأمكنة ولا مباين لها، وأنه حال في العالم أو متحد به لا كحلول الأعراض والأجسام في الأجسام وأشباه ذلك.

فاحتج موافقوهم على نفي المباينة كالرازي وأمثاله بما ذكروه من قولهم: الحلول إنما يعقل إذا كان الحال مفتقرا إلى المحل، فإما أن يكون الحلول جائزا أو واجبا، فإن كان جائزا انتفى افتقاره إلى المحل، فلزم الجمع بين النقيضين: أن يكون مفتقرا إلى المحل غير مفتقر إليه لكون حلوله جائزا لا واجبا، وإن كان الحلول واجبا لم يكن الحال واجبا بنفسه بل بغيره.

[ ص: 153 ] قال لهم الحلولية: قولكم الحلول المعقول يقتضي افتقار الحال إلى المحل إنما يكون إذا كان الحال عرضا، فضلا عن أن يكون جسما، فضلا عن أن يكون لا جسما ولا عرضا، فأما إذا قدر حال ليس بجسم ولا عرض، فلم قلتم: إن حلوله يقتضي افتقاره إلى المحل؟ وقالوا لهم: إذا جوزتم وجود موجود لا مباين لغيره ولا حال فيه، فلم لا يجوز وجود موجود حال في غيره ليس مفتقرا إليه؟

فإذا قلتم: لا نعقل حالا في شيء إلا مفتقرا إليه.

قيل لكم: هذا كما قلتموه للمثبتة: هذا من حكم الوهم والخيال، لما قال المثبتة: لا نعقل موجودا إلا مباينا لغيره أو محايثا له.

وهذا هو السؤال الذي أورده أحمد من جهة الجهمية حيث قالوا: "هو في كل مكان: لا مماس ولا مباين، فضلا عن أن يقولوا: مفتقرا، فإن الافتقار إنما يعقل في حلول الأعراض، فأما حلول الأعيان القائمة بأنفسها في الأعيان القائمة بأنفسها، فلا يجب فيه الافتقار.

التالي السابق


الخدمات العلمية