الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك قول القائلين بأن الأعراض لا تبقى زمانين، مما يقول جمهور العقلاء: إن فساده معلوم بالضرورة.

وكذلك من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمي المنافقين مؤمنين، ويجعل إيمانهم كإيمان المؤمنين غير المنافقين، وهم مع ذلك مخلدون في النار، مما يعلم جمهور المسلمين فساده بالاضطرار من دين الإسلام.

وكذلك القائلون بأن القرآن العزيز زيد فيه زيادات، ونقص منه أشياء، مما يعلم بالضرورة امتناعه في العادة.

وقول النصارى: إن الكلمة اتحدت بالمسيح، وإنها ليست هي الآب الجامع للأقانيم، وهي مع ذلك الرب الذي يخلق ويرزق، وهي جوهر، والجوهر عندهم واحد ليس إلا الآب، مما يقول الناس: إنه معلوم الفساد بالضرورة.

ومثل هذا إذا تتبعناه كثير.

فوجود الأقوال التي يقول جمهور الناس: إنها معلومة الفساد بالضرورة في قول طوائف كثيرة من الناس أكثر من أن تستوعب، فكيف يقال: لا يجوز إطباق الجمع الكثير على إنكار ما علم بالبديهة؟

[ ص: 271 ] ولكن إذا قيل: ما الفرق بين هذا وبين ما لا يمكن التواطؤ عليه من إثبات منف أو نفي ثابت، كما في خبر أهل التواتر؟

كان الجواب: أن الفطر التي لم تتواطأ يمتنع اتفاقها على جحد ما يعلم بالبديهة، فأما مع المواطأة فلا يمتنع اتفاق خلق كثير على الكذب، الذي يعلمون كلهم أنه كذب، وإن تضمن من جحد الحسيات والضروريات وإثبات نقيضها ما شاء الله. وأما في المذاهب فقد يجتمع على جحد الضروريات جمع كثير، إذا كان هناك شبهة أو هوى، فيكون عامتهم لم يفهموا ما قاله خاصتهم، مثل التعبير عن هذه المسألة بنفي الجهة والحيز والمكان، فيظن عامتهم أن مرادهم تنزيه الله تعالى عن أن يكون محصورا في خلقه، أو مفتقرا إلى مخلوق، فيوافقون على هذا المعنى الصحيح، ظانين أنه مفهوم تلك العبارة، فأما إذا فهموا هم حقيقة قولهم، وهو أنه ما فوق السماوات رب، ولا وراء العالم شيء موجود، فهذا لا يوافقهم عليه -بعد فهمه- أحد بفطرته، وإنما يوافقهم عليه من قامت عنده شبهة من شبه النفاة، لا سيما إن كان له هوى وغرض.

وإذا كان المتفقون على هذا النفي -بعد فهمه- إنما قالوه لما قامت عندهم من حجج النفاة، أمكن غلطهم في ذلك وخطؤهم، واتفاقهم على جحد ما يخالف ذلك، وإن كان معلوما بالضرورة، كما [ ص: 272 ] وقع مثل ذلك في عامة فرق أهل الضلال، ومع هذا فلا يكاد يوجد منهم من يرجع إلى فطرته بلا هوى، إلا وفطرته تنكر إثبات موجود لا مباين ولا محايث، لكن يقهر فطرته بالشبهة أو العادة أو التقليد، كما يقهر النصراني فطرته إذا أنكرت أن يكون الله هو المسيح ابن مريم.

وعامة هؤلاء إذا أصابت أحدا منهم ضرورة تلجئه إلى دعاء الله وجد في قلبه معنى يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، ففطرته وضرورته تقر بالعلو، وينكر وجود موجود لا محايث ولا مباين، وعقيدته التي اعتقدها تقليدا أو عادة أو شبهة تناقض فطرته وضرورته.

التالي السابق


الخدمات العلمية