الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
"والعارف يعرف من عبد. وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود".

[ ص: 168 ] وأمثال هذا الكلام كثير في كلام هذا وأمثاله، كابن سبعين الذي حقق قول هؤلاء الفلاسفة تحقيقا لم يسبق إليه، وكان آخر قوله: "وأن الله في النار نار، وفي الماء ماء، وفي الحلو حلو، وفي المر مر، وأنه في كل شيء تصوره ذلك الشيء". كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع.

وكذلك ابن حمويه الذي يتكلم بنحو هذا في مواضع من كلامه.

وكذلك ابن الفارض في قصيدته المشهورة التي يقول فيها:


لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت




كلانا مصل واحد ساجد إلى ...     حقيقته بالجمع في كل سجدة



[ ص: 169 ]

وما كان لي صلى سواي ولم تكن ...     صلاتي لغيري في أدا كل ركعة



إلى أن قال:


وما زلت إياها وإياي لم تزل ...     ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت




إلي رسولا كنت مني مرسلا ...     وذاتي بآياتي علي استدلت




فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ...     منادي أجابت من دعاني ولبت




وقد رفعت تاء المخاطب بيننا ...     وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي




وفارق ضلال الفرق فالجمع منتج ...     هدى فرقة بالاتحاد تحدت



[ ص: 170 ] فإن العارف المحقق من هؤلاء يقول: أرسل من نفسه إلى نفسه رسولا بنفسه، فهو المرسل والمرسل إليه والرسول. ويقول من هو من أكبر من أضلوه من أهل الزهادة والعبادة مع الصدق في تسبيحاته وأذكاره: "الوجود واحد، وهو الله، ولا أرى الواحد، ولا أرى الله".

ويقول أيضا "نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود، والوجود واحد لا ثنوية فيه".

ويكرر ذلك كما يكرر المسلمون: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.

وعنده أن هذا غاية التحقيق والعرفان.

ويجيء من هو من أفضل المتكلمين من النفاة للعلو: يعتقد في مثل هذا أنه كان من أفضل أهل الأرض، أو أفضلهم، ويأخذ ورقة فيها سر مذهبه، ويرقي بها المرضى، كما يرقي المسلمون بفاتحة الكتاب، كما أخبرنا بذلك الثقاة، وهم يقدمون تلك الرقية على فاتحة الكتاب.

[ ص: 171 ] ويقول من هو من شعرائهم العارفين:


وما أنت غير الكون بل أنت عينه ...     ويشهد هذا السر من هو ذائق



ويقول:


وتلتذ إن مرت على جسدي يدي ...     لأني في التحقيق لست سواكم



وأمثال هذا كثير.

والمتكلمة النفاة منهم من يوافق هؤلاء، ومنهم من لا يوافقهم، ومن وافقهم يقال له: أين ذاك النفي -لا داخل ولا خارج- من هذا الإثبات؟ وهو أنه وجود كل موجود.

فيقول: هذا حكم عقلي، وهذا حكم ذوقي. أو يرجع عن ذلك النفي، ويقول: المطلق جزء من المعينات، والوجود الواجب للموجودات: مثل الكلي الطبيعي للأعيان، كالجنس لأنواعه، والنوع لأشخاصه، كالحيوانية في الحيوانات، والإنسانية في الأناسي، وهذا غايته أن يجعله شرطا في وجود الممكنات، لا مبدعا فاعلا لها، فإن الكليات لا تبدع أعيانها، بل غايتها إذا كانت موجودة في الخارج أن تكون شرطا في وجودها، بل جزءا منها.

ومن لا يوافقهم أكثرهم يسلمون لهم أقوالهم، أو يقولون: نحن لا نفهم هذا، أو يقولون: هذا ظاهره كفر، لكن قد تكون له أسرار وحقائق يعرفها أصحابها.

[ ص: 172 ] ومن هؤلاء من يعاونهم وينصرهم على أهل الإيمان، المنكرين للحلول والاتحاد، وهو شر ممن ينصر النصارى على المسلمين، فإن قول هؤلاء شر من قول النصارى، بل هو شر ممن ينصر المشركين على المسلمين.

فإن قول المشركين الذين يقولون: إنما نعبدهم: ليقربونا إلى الله زلفى [سورة الزمر: 3]، خير من قول هؤلاء، فإن هؤلاء أثبتوا خالقا ومخلوقا غيره يتقربون به إليه، وهؤلاء يجعلون وجود الخالق وجود المخلوق.

وغاية من تجده يتحرى الحق منهم أن يقول: العالم لا هو الله ولا غير الله.

ولما وقعت محنة هؤلاء الملاحدة المشهورة، وجرى فيها ما جرى من الأحوال، ونصر الله الإسلام عليهم، طلبنا شيوخهم لنتوبهم، فجاء من كان من شيوخهم، وقد استعد لأن يظهر عندنا غاية ما يمكنه أن يقوله لنا ليسلم من العقاب، فقلنا له: العالم هو الله أو غيره؟ فقال: لا هو الله ولا غيره.

وهذا كان عنده هو القول الذي لا يمكن أحد أن يخالف فيه، ولو علم أنا ننكره لما قاله لنا، وكان من أعيان شيوخهم ومحققيهم [ ص: 173 ] وممن له أتباع ومريدون، وله ولأصحابه سلطان ودولة، ومعرفة ولسان وبيان، حتى أدخلوا معهم من ذوي السلطان والقضاة والشيوخ والعامة، ما كان دخولهم في ذلك سببا لانتقاص الإسلام، ومصيره أسوأ من دين النصارى والمشركين، لولا ما من الله به من نصر الإسلام عليهم، وبيان فساد أقاويلهم، وإقامة الحجة عليهم، وكشف حقائق ما في أقوالهم من التلبيس، الذي باطنه كفر وإلحاد، لا يفهمه إلا خواص العباد.

التالي السابق


الخدمات العلمية