الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وهب أنهم يمكنهم إبطال قول النصارى في تخصيصهم المسيح بالحلول والاتحاد، حيث يقال: إذا جوز الحلول والاتحاد بالمسيح جاز بغيره، فإن القائلين بعموم الحلول والاتحاد يلتزمون هذا، ويقولون: النصارى كفرهم لأجل التخصيص، وكذلك عباد الأصنام إنما أخطأوا من حيث عبدوا بعض المظاهر دون بعض، والعارف المحقق عندهم من لا يقتصر على بعض المظاهر والمجالي، بل يعبد كل شيء كما قد صرح بذلك ابن عربي صاحب "الفتوحات المكية" و"فصوص الحكم"، وأمثاله من أئمة هؤلاء الجهمية القائلين بوحدة الوجود، [ ص: 157 ] الذين هم محققو أهل الحلول والاتحاد، ولهذا كان هؤلاء لهم الظهور والاستطالة على نفاة الحلول والمباينة جميعا، بل هؤلاء يخضعون لأولئك، ويعتقدون فيهم ولاية الله، وينصرونهم على أهل الإيمان القائلين بمباينة الخالق للمخلوق، كما قد رأيناه وجربناه.

وسبب ذلك أن قول هؤلاء الحلولية والاتحادية مسقف بالتأله والتعبد، والتصوف والأخلاق، ودعوى المكاشفات والمخاطبات، ونحو ذلك مما لا يكاد يفهمه أكثر النفاة، فإذا كانوا لا يفهمون حقيقة قولهم سلموا إليهم ما يقولونه، وظنوا أن هذا من جنس كلام أكابر أولياء الله، الذين أطلعهم الله من الحقائق على ما يقصر عنه عقول أكثر الخلائق، وسلموا لهم ما لا يفهمونه من أقوالهم، كما يسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم ما لا يفهمونه من أقواله، فيعظمون هؤلاء كما يعظمون الرسول، بمثابة من صدق محمدا رسول الله ومسيلمة الكذاب: صدق كلا منهما في أنه رسول الله، كحال أهل الردة الذين آمنوا بمسيلمة المتنبي، مع دعواهم أنهم مؤمنون بمحمد رسول الله، ولا يعرفون ما بين قول هذا وقول هذا من المناقضة والمنافاة، لعدم تحققهم في الإيمان بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهكذا نفاة العلو والصفات من الجهمية، أو نفاة العلو وحده، إذا سمعوا النصوص الإلهية المثبتة للعلو والصفات، أعرضوا عن فهم [ ص: 158 ] معناها، وإثبات موجبها ومقتضاها، وآمنوا بألفاظ لا يعرفون مغزاها، وآمنوا للرسول إيمانا مجملا بأنه لا يقول إلا حقا، ولم يكن في قلوبهم من العلم بمباينة الله لخلقه وعلوه عليهم ما ينفون به بدعة الحلولية والاتحادية وأمثالهم، لأن أحد المتقابلين إنما يرتفع عن القلب بإثبات مقابله، وأحد النقيضين لا يزول عن القلب زوالا مستقرا إلا بإثبات نقيضه.

فإذا كان حقيقة الأمر أن الرب تعالى، إما مباين للعالم، وإما مداخل له، كان من لم يثبت المباينة لم يكن عنده ما ينافي المداخلة، بل إما أن يقر بالمداخلة، وإما أن يبقى خاليا من اعتقاد المتقابلين المتناقضين، ولا يمكنه مع عدم اعتقاد نقيض قول أن يعتقد فساده، ولا ينكره ولا يرده، بل يبقى بمنزلة من سمع أن محمدا قال: إنه رسول الله، وأن مسيلمة قال: إنه رسول الله، وهو لم يصدق واحدا منهما، ولم يكذب واحدا منهما، فمثل هذا يمتنع أن يرد على مسيلمة أو يكذبه.

فهكذا من كان لم يقر بأن الخالق تعالى مباين للمخلوق، لم يمكنه أن يناقض قول من يقول بالحلول والاتحاد، بل غايته أن لا يوافقه كما لم يوافق قول أهل الإثبات، فهو لم يؤمن بما قاله محمد رسول الله والمؤمنون به، ولا بما قاله مخالفوه الدجالون الكذابون، من أهل الحلول والاتحاد وغيرهم من نفاة العلو.

التالي السابق


الخدمات العلمية