الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 308 ] قال الرازي: "الوجه الثالث: أنه لو كان مشارا إليه فإن صح عليه الحركة والسكون كان محدثا لما سبق في مسألة الحدوث، وإلا كان كالزمن المقعد، وهو نقص تعالى عنه".

فيقال الاعتراض عليه من وجوه: أحدها: أن يقال قد تقدم إبطال هؤلاء لدليل الحركة والسكون، كما أبطله الرازي نفسه في كتبه العقلية المحضة، وأبطل كل ما احتج به النفاة، من غير اعتراض على إبطال ذلك. وكذلك أبطله الآمدي والأرموي وغيرهما.

الثاني: قول من يقول: هو مع كونه مشارا إليه لا يقبل الوصف بالحركة والسكون ولا بضد ذلك، كما يقولون هم: إنه لا يقبل الوصف بالدخول والخروج، والمباينة والمحايثة، ونحو ذلك من المتقابلات.

فإذا قيل لهؤلاء: إثبات مشار إليه لا يقبل ذلك غير معقول.

قالوا: هذا أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه.

وهؤلاء إذا قيل لهم: إما أن يكون مباينا، وإما أن يكون محايثا.

قالوا: هذا من عوارض الجسم، فإذا قدر موجود لا يقبل ذلك، لم يوصف بمباينة ولا محايثة، فيقول لهم هؤلاء: كونه موصوفا بالحركة [ ص: 309 ] والسكون فرع على قبوله لذلك، فإذا قدر موجود مشار إليه لا يقبل ذلك، لم يوصف بأحدهما.

ومن الناس من يقول: الحركة من خصائص الجسم. ومنهم من يقول: الحركة يوصف بها ما ليس بجسم، كمن يقول بإثبات نوع من الحركة للنفس، ويقول: إنها غير جسم. وكذلك قول من قال مثل ذلك في الواجب.

الثالث: أن يقال: اتصاف المتصف بالحركة والسكون: إما أن يكون صفة كمال أو لا. فإن لم يكن صفة كمال، لم يكن سلب ذلك نقصا، فلا محذور فيه، وإن كان صفة كمال أمكن اتصافه بذلك فلا محذور فيه.

فإن قيل: هو صفة كمال للجسم دون غيره.

قيل: إما أن نعلم ثبوت موجود غير الجسم، أو لا نعلمه، فإن لم نعلمه لم يمكن إثبات موجود قائم بنفسه: لا تكون الحركة كمالا، وإن علمنا وجود موجود ليس بجسم، فالعلم بذلك ليس بضروري، بل هو نظري، فلا بد له من دليل.

وحينئذ فإما أن يمكن وجود مشار إليه ليس بجسم، أو لا يمكن، فإن أمكن جاز أن يشار إلى الباري تعالى، ويكون فوق العرش، وليس بجسم. وإن لم يمكن وجود مشار إليه إلا أن يكون جسما، فلا بد من دليل يدل على إثبات وجود موجود لا يمكن الإشارة إليه، ولا يكون جسما.

[ ص: 310 ] وهذه الوجوه هي أدلة ثبوت ذلك.

فإذا قيل: لو لم يصح عليه الحركة والسكون لكان كالزمن، لم يمكن إثبات ذلك إلا إذا ثبت أن كل مشار إليه يقبل الحركة والسكون، وأن كل مشار إليه جسم.

وهذا لا يثبت إلا إذا بطل قول من يقول: يمكن أن يشار إليه ولا يكون جسما، أو يمكن أن يكون فوق العرش ولا يكون جسما.

وهؤلاء لا يمكن إبطال قولهم إلا إذا بطل قول من يقول بوجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه، لأنه بتقدير صحة قول هؤلاء، يمكن صحة قول أولئك، فإنه إذا جاز في العقل إمكان وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يباين غيره ولا يحايثه، أمكن وجود موجود قائم بنفسه، فوق عرشه، لا يشار إليه، وكان هذا أقرب إلى العقل من ذلك.

فإذا كان إبطال قول هؤلاء مستلزما لبطلان قول المدعي، لم يبطل قولهم إلا ببطلان قوله. وإذا بطل قوله، كانت الحجة على صحته باطلة.

فتبين أن هذه الحجة يلزم من صحة مقدمتيها بطلان قول المدعي المحتج بها، فلا يمكن الاستدلال بها عليه، وهو المطلوب، فإنها إن صحت استلزمت بطلان دعواه، وإن لم تصح لم يمكن الاستدلال بها على دعواه، فبطلت الدلالة على التقديرين، وهو المطلوب.

الرابع: أن يقال: كثير من النظار يقولون: صحة الحركة ليست [ ص: 311 ] من خصائص كونه مشارا إليه، فإن كثيرا من هؤلاء يجوز أن يقوم به ما هو متجدد أو حادث، وإن قال: إنه غير مشار إليه، وقد تقدم قول الرازي: "إن عامة الطوائف يلزمهم القول بحلول الحوادث وإن أنكروا ذلك" مع أن نفاة العلو من هؤلاء يمنعون جواز الإشارة إليه، كما يقول ذلك من يقوله من الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية وغيرهم، بل المتفلسفة يجوزون حلول الحوادث بما ليس بجسم غير الواجب، كما يقولون مثل ذلك في النفس الفلكية والإنسانية. ثم أكثر أهل الكلام من هؤلاء يقولون: إن ذلك الحادث القائم بالواجب تجدد بعد أن لم يكن، فهؤلاء يصفونه بقيام الحوادث به في وقت دون وقت، ومع هذا فلا يجعلونه في حال انتفاء ذلك كالزمن المقعد، فيقول هؤلاء: يمكن أن تقوم به الحوادث، وهو نوع من الحركة، ولا يكون مشارا إليه، ولا يكون عند انتفاء ذلك كالزمن، فإن سلم أولئك لهم إمكان ذلك بطلت الحجة، وإن لم يسلموا ذلك لهم: قالوا: هذا أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه، وإن كان هذا من حكم الوهم فكذلك الأول، وإلا لزم امتناع موجود قائم بنفسه لا يشار إليه، وهو المطلوب.

ومما يوضح هذا أن لفظ "الحركة" قد يعني به الانتقال من حيز إلى حيز، وقد يعني به ما هو أعم من ذلك، كالحركة في الكيف والكم والوضع، مثل مصير النفس عالمة وقادرة ومريدة، ومصير الجسم أسود وأحمر، وحلوا وحامضا، ومثل الاغتذاء والنمو الحاصل في الحيوان والنبات، ومثل حركة الفلك في حيز واحد، فهذه قد تسمى حركات، وإن لم يكن قد خرج الجسم فيها من حيز إلى حيز آخر.

[ ص: 312 ] وإذا كان لفظ "الحركة" من جنس لفظ "الحدوث" كان البحث عن قيام أحدهما به، كالبحث عن قيام الآخر به. ومعلوم أن كثيرا من النظار يصفونه بذلك، ولا يقولون: هو جسم.

التالي السابق


الخدمات العلمية